وتحديداً إلى وقت عرض شاشة التلفزيون الأردني لحلقات مسلسله الممتع «الشهد والدموع».
منذ ذلك التاريخ تعلّمنا على يدي عكاشة أشكالاً متعددة من الانتظار، بدءاً من انتظار موعد الحلقة التالية من المسلسل، إلى انتظار أن تقوم شاشة التلفزيون السوري بعرض حلقات العمل المذكور، كي نحظى بفرصة متابعة صورة أكثر دقة ووضوحاً.
أما انتظارنا الأهم فكان لأعمال عكاشة الجديدة، لنندفع بعد سنوات قليلة بكل ما فينا من حماس المراهقة، لندعم أولئك الذين وجهوا لنا الدعوة للوقوف معهم في وجه البلدوزرات في مسلسل حمل اسم «الراية البيضاء».
بدأ أسامة أنور عكاشة حياته الأدبية كاتباَ قصصياً، وعندما وجد أن كتّاب القصة في مصر أكثر من قرائها، قرر – من حسن حظنا وحظ الدراما التلفزيونية العربية- أن يلتفت إلى الكتابة التلفزيونية، حتى أصبح في نظرنا صورة لعمل درامي جدير بالمتابعة من خلال سويته الفنية العالية، وهو ما تعمق في دواخلنا حين أطل علينا برائعته «ليالي الحلمية»، ليتجاوز الأمر قضية الانتظار والترقب للحلقات القادمة والأجزاء اللاحقة، ولتصبح أيامنا بأسرها تسير على إيقاع تلك الليالي، وتقلباتها وعلاقات وصراعات أبنائها.
في «ليالي الحلمية» نجح عكاشة في صياغة شخصيتين أعادتا اكتشاف موهبتين تمثيليتين كبيرتين، وأقصد بهما يحيى الفخراني وصلاح السعدني، منتشلاً إياهما من الظل السينمائي والحالة التلفزيونية العادية، لينالا مكانة يستحقانها على الشاشة العربية، كما فجّر مواهب ممدوح عبد العليم وهشام سليم وآثار الحكيم، ونفخ الحياة في أرواح ممثلين عملوا في مهنة التمثيل قبل عشر سنوات من ليالي الحلمية دون أن يعرف بهم أحد، ممثلين مثل إسماعيل محمود الذي أدى دور زاهر سليمان غانم، وفتوح أحمد الذي انطلق بعد الحلمية إلى مواقع أكثر تقدماً.
كما نجح عكاشة في تقديم عمل يستحق أن يسمى مدرسة درامية بحق، تشعر أن كثيراً من الأعمال التي تلته استقت شيئاً من مفرداته وأجوائه.
بعد ذلك عاد عكاشة في مسلسله الجميل «أرابيسك»، ليمارس لعبة شدنا نحو بطل من لون مختلف هو حسن آرابيسك، ابن البلد الشهم في كل انكساراته وأحلامه وفلسفته وتساؤلاته عن مصر وتاريخها الفرعوني والمملوكي والعربي والقبطي والإسلامي، طارحاً تلك العبارة المهمة: «عندما نعرف من نحن، نعرف ماذا نريد».
ما يميز دراما عكاشة أنها لا تعترف بالأدوار الثانوية، فكل الشخصيات لها نصيب طيب من قلم الكاتب الراحل الذي يعرف كيف ينبش أعماقها، ويسبر أغوارها حتى يوصلها إلى درجة البطولة بشكل أو بآخر، وكأني بدراسة عكاشة في قسم الدراسات الاجتماعية والنفسية في كلية الآداب جامعة عين شمس، ما يوضح تلك القدرة المتميزة والحساسية العالية على التقاط أوجاع المهمشين على الأرض، وإعادة بثها تلفزيونياً.
منذ بداية عشقي للتجربة العكاشية في الكتابة الدرامية كنت أقرأ آراء تتعلق بغلبة الحوار على الصورة في أعمال الكاتب الكبير، وهو الأمر الذي يتحمله برأيي المخرجون الذين تصدوا لإخراج تلك الأعمال.
أسامة أنور عكاشة صاحب الآراء الجريئة التي آمن بها وأطلقها، فوفرت له قائمة طويلة من الأعداء، والكثير من المضايقات، يبدو في كلام الكاتب الدرامي المصري محمد صفاء عامر عنه الكثير من الدقة عندما تحدث عن خسارة مصر في السنوات الأخيرة للكثير من الرموز، كما رأى صعوبة تعويض عكاشة الذي يبدو وكأنه كان يجب أن يرحل!
رحل عكاشة في الثامن والعشرين من أيار 2010، فشعر الكثيرون برحيل جزء من ذاكرتهم وأحلامهم، ووجدناها دعوة مباشرة وقوية لنا كي نعيد من جديد قراءة تراثه الدرامي المشبع بالأسئلة التي لم تجد بعد إجابات شافية لها.