تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


مازن صباغ .. رحيل ذاكرة تستحق التقدير

ملحق ثقافي
11-6-2013
مرهف زينو:كان من المفترض أن يكون الراحل: المبدع، المؤرخ، الموثِّقُ والإعلامي الباحث مازن يوسف صباغ.. ضيفاً على صفحات الملحق الثقافي..

ربما في هذا العدد أو أحد الأعداد القريبة اللاحقة، وذلك عبر حوار شامل حول تجربته المتميزة؛ تم الاتفاق معه على إجرائه قبل بضعة أيام فقط من رحيله.. لأجد نفسي «ناعياً» لا محاوراً لقامة من القامات الفكرية والوطنية في سورية، ولشخص استطاع أن يجسد جملة من أطياف الإبداع والتفرد في رجل واحد، وأن يبحث ويوثق بدقة وأمانة لمختلف الأحداث والشخصيات الهامة والمفصلية في حياتنا الماضية والحاضرة، وفي شتى الاتجاهات والمناحي الفكرية والأدبية والسياسية، عبر تأسيس وتشييد مشروع فكري، بحثي توثيقي تبدو إحدى غاياته الكثيرة ومطامحه المتعددة هي محاولة حفظ نقاء ماء الحياة ونضارة الذاكرة ونبضها. وهو جهد شخصي فذ يستحق التحية والإكبار.‏

فعلى الرغم من سنوات حياته القصيرة نسبياً -1953 -2013- ، استطاع الراحل أن يكون علامة فارقة في غزاة الإنتاج وكثرة فروعه حيث قدّم خلال حياته الخاطفة-لكن الغنية-ما ينوف عن الأربعين كتاباً وبحثاً و»سجّلاً».. تتضافر مع بعضها البعض كي تكوّن فسيفساء معرفياً تجتمع فيه الفكرة والحدث والشخصية- سياسية كانت أم أدبية، دينية أم فنية.. الخ لتدلل في النهاية على حجم الجهد الذي بذله الكاتب والمسؤولية والحرص الذين قدم من خلالهما هذا الجهد إلى القارئ، معتمداً – كما أرى-على أهم سمات الكاتب-الباحث والموثق، ولعل من أبرزها:الدقة والشمولية وسعة الأفق، والحيادية.. هذا إضافة إلى اعتماد لغة بسيطة سلسة بعيدة عن التهويم والتكلف من شأنها أن تقرّب المسافة بين القارئ وموضوعه.. وهي أمور أعتقد أنها تظهر بجلاء للقارئ عند مطالعته لتلك المؤلفات – السجلات.‏

ففي كتابه «البابا شنودة- حوارات في الإيمان والثقافة والوطنية-1999 « يقدم المؤلف الراحل مجموعة من الحوارات المطولة كان أجراها مع البابا شنودة الثالث، بابا الإسكندرية، وقد جرت هذه الحوارات في مناسبات مختلفة في كل من دمشق والإسكندرية وبيروت والقاهرة بين عامي 1997 و 1998. كما يضم الكتاب رصداً توثيقياً لوقائع عدة زيارات كان قد قام بها البابا الراحل إلى سورية. وأهم ما في الكتاب أنه يقدم البابا شنودة باعتباره مثالا لرجل الدين الذي يدعو إلى خطاب ديني وطني معتدل. فالكتاب يشكل سيرة حياته وسجلا حافلا بمواقفه وأفكاره وجهاده من أجل التعددية والحوار بين الأديان والمذاهب والآراء والأفكار. ويُظهرُ مناقبيته ودوره كرجل وطني أدرك مكانة وطنه مصر، والأمة العربية ودورها الإنساني والحضاري، وكيف أن قضية فلسطين كانت محور تفكيره وخُطبه ومواقفه التي عبر عنها في كل بلد حلّ فيه، وفي كل مؤتمر أو منبر شارك فيه.. كما ويبين الكتاب أن إحدى المهام التي سخر لها البابا الراحل ُجلّ اهتمامه خلال حياته الطويلة كانت مهمة توعية الأجيال السابقة والحالية بالأخطار المحدقة التي تحيط بالأمة العربية في الحاضر والمستقبل، وحثه على ضرورة إحداث نهضة شاملة في كافة نواحي الحياة:السياسية والاجتماعية والفكرية، من أجل استغلال الطاقات والإمكانات وعدم هدرها في الفُرقة والاختلاف أو الانكفاء والانزواء.‏

ومن الكتب الهامة التي أصدرها الراحل العام الماضي كتاب «هامات.. . ومواقف» الذي يشبه الواحة الملونة التي تعكس الكثير من فكر الكاتب ونهجه وأسلوبه. يضم «هامات.. ومواقف» باقة من أربع وأربعين دراسة ومقالة يتناول الكاتب في الجزء الأكبر منها سيرة حياة ومواقف عدد من أعلام السياسة والفكر والأدب والفن والفلسفة والدين ممن عاشوا في عصور تاريخية مختلفة:في تاريخنا القديم والحديث والمعاصر، منهم من رحلوا ومنهم من لا يزال على قيد الحياة، لكن الرابط الرئيس الذي يجمع هذه الشخصيات هو دورها في صناعة التاريخ والتأثير في مجرى أحداثه وتطوراته. كل في مجاله:إن كان في الأدب أو الفن أو السياسة.. الخ. ويخصص الكاتب قسماً آخر من هذه المقالات لتسليط الضوء على بعض المناسبات والأحداث المهمة في سورية والعالم ومدلولاتها ومعانيها. التنوع هو السمة البارزة في محتويات الكتاب. فالمقالات التي قام الكاتب بجمعها وتصنيفها وتبويبها لا تتحدث عن جنس واحد من المبدعين والمؤثرّين عبر التاريخ. فمن رجالات السياسة هناك كثير من أمثال: باتريس لوبمبا، المهاتما غاندي، جواهر لال نهرو،.. وغيرهم.‏

ومن رجالات الأدب نطالع دراسات عن عمالقة الأدب العربي والعالمي من أمثال:نجيب محفوظ، سعيد عقل، يوسف الخطيب، دوستويفسكي، عمر الخيام، محمد إقبال، غابرييل غارسيا ماركيز.. وغيرهم. وفي مجال الفن هناك دراسات عن محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش.. وغيرهما. هنا تبرز سمتان من أسلوب ونهج الكاتب الراحل-اعتمدهما في هذا الكتاب وفي كتبه الأخرى-وهما:الدقة والحيادية. فقد اختار الكاتب أعلامه وشخصياته بدقة. إذ أن كل هذه الشخصيات هامة ومحورية، ولم تعش حياة عادية، أو تعبر التاريخ هكذا»مرور الكرام»، بل كانت فاعلة ومتميزة. هذا من جهة، أما من جهة أخرى فهذه الشخصيات لا تمثل بلدا بعينه؛ كلها منتقاة من الشرق ومن الغرب، ولا تنتمي إلى دين محدد؛فهناك المسلمون جنبا إلى جنب مع المسيحيين بين دفتي الكتاب.‏

من هنا يبدو جليّاً حرص الكاتب على مبدأ الحيادية في الانتقاء، فمن الواضح أن جلّ ما يهم المؤلف هو أن تكون الشخصية هامة ومؤثرة، وأن تكون قد قدمت إسهاماتها الواضحة إلى البشرية.. بغض النظر عن الجنس واللون والعرق أو الانتماء السياسي والقومي والديني.‏

وتبرز الدقة أيضاً في التوثيق والوضوح عند تقديم المعلومة إلى القارئ؛ فهو عندما يتحدث عن شخصية ما يقوم بسرد سيرة حياة هذه الشخصية، واستعراض مختلف مراحل هذه الحياة بكل منعطفاتها وتقلباتها، وعبر المسارات المتعددة التي سلكتها، وهو يقوم بذلك مدعمِّا مادته بالتواريخ والتفاصيل-حتى الشخصية منها-بحيث يمكن للقارئ أن يكوّن صورة شمولية مكتملة عن تلك الشخصية، صورة غنية بالمعلومات والوثائق التي قد تكون غائبة عن أذهان الكثير من القراء والدارسين. إذ تبدو المقالات والدراسات بمثابة الأبحاث القصيرة المكثفة التي تُغني القارئ والباحث عن سيل من الدراسات والأبحاث الأكاديمية حول الموضوعات المطروحة، هذا ناهيك عن بساطة اللغة وسلاستها؛الأمر الذي يمكنّ القراء بمختلف مستوياتهم من فهم واستيعاب محتوى الكتاب والاستمتاع به.‏

«سوريا الأم الحنون.. دوماً وأبداً‏

من البديهي القول إن الراحل كان يعطي للعمل التوثيقي والتأريخي مكانة بارزة في إطار العمل الثقافي والفكري، والاشتغال في كافة مجالاته وحقوله. وكان يؤكد على أهمية «الوثيقة» وما تحمله من مُعطى معرفي، وما تقدمه إلى الأجيال القادمة، ليس فقط في كونها حامية وحافظة لذاكرة هذه الأجيال وحيويتها فحسب؛بل في كونها تبقى على الدوام حافزا لتنشيط هذه الذاكرة وقدرتها على المحاكمة المنطقية، البعيدة عن الأهواء والأفكار المعلبّة والمسبقة؛ بما يسهم في استلهام العبر من الماضي وتوجيه البوصلة إلى الإتجاه الصحيح في فهم وتحليل اللحظة الحاضرة.. واستشراف المستقبل. ولعل هذه الأهمية تبرز-في أحد أوجهها-في إشارة الباحث الراحل إلى أهمية الجانب التوثيقي في مشروعه الثقافي. يقول منوها في فاتحة كتابه «دستوريات.. الرقابة الدستورية على القوانين والمحكمة الدستورية العليا في سوريا 1919 -2012 «: «عمل «توثيقي-تأريخي» وعليه فهو ليس دراسة مقارنة أو أطروحة جامعية أو تحليلاً أكاديمياً».‏

وكان من الطبيعي والبديهي أيضا أن تحوز سوريا وتاريخ سوريا على الحيز الأكبر من اهتماماته، وأن يحتل الـتأريخ للدولة السورية المكانة الأولى في سلم اشتغاله على مشروعه التأريخي.. فسوريا- كما يقول في إهداء كتابه «دستوريات»: «الأم الحنون.. دوماً وأبداً».‏

أنجز الراحل في هذا المجال سلسلة من الكتب والسجلات توثق لتاريخ الدولة السورية الحديثة والتي بدأت من العام 1918 تاريخ الإستقلال عن السلطنة العثمانية وإعلان قيام برلمان الإستقلال-المؤتمر السوري العام- لدول سوريا ولبنان وفلسطين والأردن سنة 1919. وقد بلغت هذه السجلات اثني عشر كتابا وسجلا منها «سجل الحكومات والوزارات السورية 1918 -2010 ، سجل البرلمان ومجلس الشعب 1919 – 2011 ، سجل الدستور السوري 1920 – 1973، الحراك السوري-الفلسطيني 1918 -1933 ، دستور الجمهورية العربية السورية الجديد 2012 ، الانقلاب العسكري الأول في سورية بقيادة الزعيم حسني الزعيم 1949 ، الانقلاب العسكري الثاني في سوريا بقيادة الزعيم سامي الحناوي 1949.. وغيرها.. حتى قبيل وفاته بفترة وجيزة، حين أصدر-الانقلاب العسكري الرابع» ولعل أهمها –في اعتقادي-تلك التي تتناول مرحلة الانقلابات العسكرية في سوريا، والأحداث السياسية التي عصفت بالبلاد في تلك الحقبة. وعلى الرغم من أن إصدارات عديدة من كتب وحوارات ومساجلات ومذكرات وسير ذاتية.. قد تناولت تلك الفترة، إلا أن أهمية تلك السجلات تكمن في أنها تمثل رصدا يوميا لوقائع وأحداث تلك الإنقلابات وتداعياتها وأسبابها-الظاهر منها والمخفي-ودور كافة الأطراف ممن قاموا بتلك الانقلابات وقادوها، ووقفوا ضدها- سراً وعلانية- وردود الأفعال عليها محلياً وعربياً ودولياً: أحزاباً ودولاً وشخصيات.. مما يقدم للقارئ مفاتيح مطالعة هادئة ومتأنية لتفاصيل تلك الأحداث وتجلياتها ومفرزاتها، نحن أحوج الآن، وفي كل وقت، لدراستها وتمحيصها وأخذ العبر منها، ومعرفة ما جرى ويجري، وما كان ولا يزال يخطط لبلدنا وخارطة المنطقة كلها.‏

حسب الراحل أنه ترك بين أيدينا أسباب بقائه بيننا!‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية