تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


ماريا أsرناؤوط: الكمان الأقرب للأصوات البشرية والأقدر على استحواذ المشاعر

ملحق الثقافي
4/4/2006
حوار ادريس مراد

لغة النغم الموسيقي هي عبارات لحنية لها من المعنى ما لكلمات اللغات المنطوقة أو المكتوبة من دلالات مع فارق أن فهم لغة الموسيقا وتعبيراتها المطلقة التي لا تجاريها فيها لغة الكلام هي من نصيب الوجدان على حين يتطلب فهم اللغات الأخرى عقلاً ومنطقاً، وأن لفن الموسيقا ميداناً غير ميدان العقل كما يقول الألماني (أوتور شوبنهاور).

أمور كثيرة ناقشناها مع عازفة الكمان الأول في الفرقة السيمفونية الوطنية ماريا أرناؤوط ضيفتنا في هذا العدد: الآلة الأكثر مقدرة الكمان آلة ذات قدرات تعبيرية واسعة جداً، و الصوت الذي تصدره هو من أقرب الأصوات للأصوات البشرية و بالتالي فإن لها المقدرة على سلب مشاعر المستمع بسهولة، إلا أنها آلة صعبة جداً بالمقابل لا يمكن السيطرة على كل إمكاناتها إلا بالجهد و الصبر و امتلاك الأدوات التقنية المناسبة. إن دراستي للكمان اختلفت في لندن عنها في نيويورك.‏

فأوروبا ما زالت تعلق أهمية كبرى على إيجاد شخصية موسيقية متفردة لكل موسيقي، و الأساتذة الذين تركوا أكبر اثر لدي هم الذين كانوا يصرون على أن لا أضحي بالجرأة في التعبير الموسيقي لمصلحة أي صعوبات تقنية. لأن صعوبة هذه الآلة قد تقود العازف بسهولة للانغماس بمشاكلها التقنية و الابتعاد عن الهدف الاساسي لعزف اي آلة و هي التعبير. إن الأعداد الكبيرة من الموسيقيين في الغرب أدى لخلق روح تنافسية عالية تدفع بدورها العازف ليس نحو العمل بجد أكبر فحسب بل نحو البحث عن التميز في الشخصية الموسيقية. أما في أميركا، و كما هي الحال في الكثير من المجالات لديهم، يتم التركيز و بشكل أساسي على امتلاك مهارة تقنية عالية جداً، و على حساب الجوانب الموسيقية أحياناً. و بالنتيجة فقد اكتسبت من كلا الطرفين جانبين كمَلا بعضهما، و هذا ما أحاول تقديمه لطلابي حالياً. و طبعاً فإن تطوير نوعية العزف على الكمان و على أي آلة و بالتالي تطوير أي عملية إبداع فني مسألة لا تنتهي و هي تتغذى من التمرين والعمل و من الثقافة و التواصل الدائم مع نتاج الفكر البشري و المساهمة فيه. الدراسة في عدة دول تنتمين لعائلة فنية، فوالدك الفنان التشكيلي المتميز عبد القادر أرناؤوط ووالدتك الأستاذة محاسن مطر عازفة الكمان، هل كان لذلك أثر في اختيارك الموسيقى وكيف بدأت دراسة الكمان؟ بالطبع فقد بدا لي كطفلة وجود الموسيقى والرسم في أي بيت من الأشياء الطبيعية. ومن البديهي أن أطفال الأشخاص العاملين في مجالات الثقافة يحظون بفرص أكبر وحظ أوفرمن أترابهم لتعلم فنون الموسيقى والرسم وغيرها. أذكر أن والدتي اصطحبتني إلى أحد الخبراء الروس في المعهد العربي للموسيقى (معهد صلحي الوادي حالياً) حين كنت في حوالي الرابعة وكانت قد اشترت لي، بعد إلحاحٍ مني، كماناً صغيراً جداً وهو قياس نادر ومازلت أحتفظ به. إلا أن الخبير الروسي أخبرها أني صغيرة جداً وطلب منها إحضاري في العام التالي حيث بدأت دروس الكمان بشكل جدي. ووالدتي التي كانت أول عازفة كمان في فرقة موسيقا الحجرة مع الأستاذ صلحي الوادي لم تتدخل في دراستي للكمان بشكل مباشر لأنها لم ترد أن تخلط بين علاقتها بي كأم وأستاذة بنفس الوقت. وهكذا أتممت دراستي في المعهد العربي وبعد ذلك في المعهد العالي للموسيقا على يد خبراء روس. ثم حصلت على منحة لدراسة الكمان في الأكاديمية الملكية في لندن تحت إشراف استاذ وعازف الكمان المتميز إريك غرونبيرغ تبعتها منحة ثانية لنيل الماجستير في نيويورك في الولايات المتحدة الأميركية. الإقبال الجماهيري هل نجح الموسيقيون برأيك بخلق جمهور للموسيقا الكلاسيكية في سوريا طوال أكثر من أربعين عاماً؟ نعم إذا كنا نتكلم عن الإقبال على الحفلات الموسيقية التي تقدمها الفرقة السيمفونية ومجموعات الموسيقا الكلاسيكية الأخرى، فالإقبال ممتاز ويعود ذلك على ما أظن إلى مكانة الموسيقا والدور المهم الذي لعبته بكل أشكالها في حياة الناس في منطقتنا على الدوام وإلى الفضول الطبيعي نحو المعرفة التي نتمتع بها، كما يجب ألاننسى ان هذه الحفلات تندرج ضمن إطار النشاطات الثقافية والاجتماعية التي يتوق الجميع للمشاركة بها. وعلى الرغم من أن الفضول للمعرفة هو من أهم الصفات التي يمكن للإنسان أن يتمتع بها كونه يفتح أمامنا مجالات الحياة ويدفعنا للإرتقاء بها ومن دونه لا يمكن لمعرفة أن تحصل ولا لإكتشاف أن يتم إلا أنه غير كاف ما لم يُدعم بالجهد والعمل المتواصلين إن السؤال الحقيقي يجب أن يكون: هل نجحنا حقاً بخلق ثقافة موسيقية وتطوير الفهم الموسيقي للموسيقا الكلاسيكية لدى هذا الجمهور؟ إني في الحقيقة أعتقد أن شريحة صغيرة من هذا الجمهور لديها إلمام وفهم عميقان بماهية هذه الموسيقى فإن مجرد حضور الحفلات الموسيقة لا يجعل من أي شخص عارفاً بالموسيقا، هذا لا يعني طبعاً عدم القدرة على الإستمتاع بجزء كبير منها فللموسيقا القدرة الكبيرة على إستحواذ المشاعر وبشكل عفوي. إلا أن لتجربة الإستماع للموسيقى أبعاداً أعمق من ذلك يصعب الاستحواذ عليها من دون وجود خلفية موسيقية مناسبة وبالتالي تبقى تجربة الاستماع غير مكتملة. إن عدم القدرة على الإلمام بكل هذه الجوانب يعود أساساً إلى صعوبة بناء الثقافة الموسيقية دون العمل على نشرها أولاً نشراً أفقياً يطال كافة شرائح المجتمع وخصوصاً في المدارس وبين الأطفال. إنه لمن المحزن حقاً أن نرى أن حصص الموسيقى في مدارسنا يستعاض عنها بحصص "فراغ"! فطالما أنها لا تأخذ حقها عبر تدريسها كأي مادة أخرى ومنذ الطفولة فإننا لا نستطيع أن نتوقع وجودها كجزء من الثقافة العامة للأفراد. كما أنه يصبح من المستحيل بالتالي اكتشاف المواهب والقدرات بين الأطفال ودفع المميزين منهم للدخول في عالم الإحتراف. وبعيداً عن موضوع الإحتراف، فإن الموسيقى وجميع الفنون الأخرى من رسم ومسرح ورقص هي جزء هام من التراث الإنساني ولا تكتمل ثقافة إلا بوجودها كما أنها تفتح الذهن وتنمي الملكات الفكرية والخيال والقدرة الإبداعية وهذا مهم في جميع مجالات الحياة. لا بديل عن موسيقانا كيف تردين على من يحاجج بان هذه الموسيقا هي موسيقا أجنبية ليس لها علاقة بتراثنا أو ثقافتنا ؟ أريد أولا أن أشير بأن الموسيقا الكلاسيكية ليست النتاج الوحيد للفكر الغربي المنتشر والذي يدرَس في بلدنا فهناك الآداب الأجنبية والفنون التشكيلية والمسرح و الرسم والنحت. أنا أعتقد بأن المخاوف الرئيسية وراء هذا الإنتقاد هو أن تحل الموسيقى الكلاسيكية محل موسيقانا وهذا غير معقول البتة. يجب عدم المقارنة بين موسيقانا والموسيقى الكلاسيكية ويجب التعامل مع كل منهما ككيان مسقل وقائم بذاته. إن تقديم الدعم للموسيقى الكلاسيكية لا يجب أن يعني بشكل من الأشكال وقف الدعم للموسيقى العربية والعكس صحيح. إن الموسيقى الكلاسيكية هي من حيث المنشأ نتاج فكر وحضارة غربيتين إلا أنها من حيث التطلعات إنسانية عالمية تماما كما هي الأعمال الخالدة في الفنون الأخرى. إن دراسة و فهم هذه الموسيقا يوفران فهماً للطبيعة الإنسانية نفسها و الأمر يحتاج على الارجح للكثير من الأمثلة لإيضاحه، إلا أنه و باختصار أهم مايميز الموسيقا الكلاسيكية عن غيرها هو وجود الهارموني، فالقطعة الموسيقية المكتوبة بقالب السوناتا مثلاً، هارمونياً تنطلق من مقام معين تعتاد الاذن عليه و من ثم تجوب القطعة في مقامات اخرى قريبة أو بعيدة تذكر تارةً بالبداية او الموطن الذي انطلقنا منه و تضفي شعوراً بالضياع تارة اخرى، إلى أن تجد طريقها إلى سلم البدء مما يعطي شعوراً بالاستقرار و الوصول. كما أنه بعد هذا الوصول تعاد الكثير من الاشياء التي سبق عرضها و لكن بطريقة مختلفة قليلاً، كل هذا يشابه ما يحدث في حياة الإنسان: الولادة، التعرف على الاشياء، الاعتياد عليها، محاولة البحث عن شيء جديد وعن معنى للحياة، عدم تكرار نفس الشيء بالطريقة ذاتها مرتين. كان أحد أساتذتي يقول أن الموسيقا هي إحدى الطرق التي تعلمنا أن الأشياء ليست بالضرورة ما تبدو عليه و كان يضرب مثلاً بالسيمفونية الرابعة لبيتهوفن حيث تبدأ بعلامة واحدة هي سي بيمول مما يوحي بأن المقام سيكون مقام السي بيمول ماجور، على أن العلامة التالية تثير الشك لانها تقترح مقامات اخرى، و بالنهاية فإن السيمفونية هي حقاً من مقام سي بيمول إلا أن تأكيد ذلك لا يتم إلا بعد فترة زمنية و بعد شعور بعدم اليقين. و طبعاً هناك طرق اخرى للتعبير كالإيقاع و طريقة استخدام الاصوات المختلفة للآلات الموسيقية و هو ما اصبح أكثر شيوعاً في الموسيقا المعاصرة. و بالنهاية فإن الاداء المميز هو الأداء الذي يتصف بالتوازن بين الفكر و المشاعر المهارة التقنية و الجهد و الصبر وهي كلها صفات يستفاد منها في الحياة و تسعى جميع الفنون الأخرى إليها، والاختلاف يكمن في ادوات التعبير. اكتساب الخبرة أنت العازفة الاولى في الفرقة السيمفونية الوطنية، هلا حدثتينا عن الفرقة و تجربتك معها؟ لقد بدأت العزف في الفرقة منذ إنشائها في أوائل التسعينات حيث كان الأستاذ صلحي الوادي يصر على دمج كل طلاب المعهد حتى الصغار منهم في الفرقة و قد كان في ذلك رؤية بغاية الاهمية، إذ أتيح لنا من جهة اكتساب الخبرة والمتعة من خلال العزف بالفرقة، واستفادت الفرقة من جهة أخرى من جميع الطاقات الموجودة من محترفين وطلاب. و أنا أعتقد أننا ما زلنا بحاجة لهذا الدمج بسبب حاجة الفرقة لأعداد أكبر من العازفين خاصة في قسم الوتريات و لعدم توفر فرق أوركسترا أخرى يستطيع الطلاب من خلالها التعرف على الاعمال الأوركسترالية وتقديم الحفلات بشكل منتظم وهو أمرجوهري في تكامل تعليمهم الموسيقي. لقد أتيحت لي الفرصة للعزف والمشاركة في العديد من الاوركسترات الطلابية والمحترفة، و قد كنت عازفة أولى في العديد منها وكان ذلك تحت إشراف وقيادة خيرة من قائدي الاوركسترا في العالم اليوم وقد قدم كل ذلك لي خبرة ومعرفة واسعتين في هذا المجال كما أتاح لي التعرف وأداء عدد كبير من الاعمال الموسيقية السيمفونية. لا أدري من القائل بأن الفرقة السيمفونية في بلد ما تعكس مستوى هذا البلد الثقافي، فوجود فرقة سيمفونية واستمرارها يعنيان وجود مستوى عال من الفنية والتقنية لدى كل فرد من أفراد هذه الفرقة والتزام هذه المجموعة الكبيرة من الافراد بالعمل الجماعي والإخلاص له ووجود جهات مسؤولة تأخذ على عاتقها دعم الفرقة مادياً ومعنوياً لتوفير الجو المناسب الذي يمكن من خلاله للعازفين بالفرقة التركيز على عملهم و الإرتقاء به. لقد استطاعت فرقتنا السيمفونية الوطنية أن تثبت وجودها وكفاءتها على الساحة السورية والعربية وحتى العالمية وذلك بتأديتها لاعمال كثيرة عالمية ومحلية وتقديمها للحفلات وبشكل متواصل على الرغم من الصعوبات العديدة التي كانت وما زالت تعترضها. إن جميع أعضاء الفرقة يعملون وبإخلاص للمحافظة والإرتقاء بهذه الفرقة التي لم تبصر النور إلا بعد جهود طويلة. وإن علينا وبغض النظر عن المشكلات التي تواجهنا أن نواصل العمل الجاد وأن نضع خطة بعيدة الأمد لدفع الفرقة إلى الامام عن طريق توسيع مخزون الفرقة من الاعمال الموسيقية ودعوة قائدي أوركسترا عالميين لتقديم خبراتهم المختلفة ودعوة عازفين منفردين للعزف والعمل مع عازفينا وما إلى ذلك. فالعمل الجاد والمستوى الحرفي العالي وحدهما قادران على تذليل الصعوبات.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية