تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


السُهروردي .. واقعية النص و ملحمية المعالجة و التغريب بين الانتصارات الحربية و الإخفاقات الإنسانية

ملحق الثقافي
4/4/2006
فاديا حمود أبوزيد

«تعيسة هي البلد التي تحتاج إلى أبطال....وتعساء أيضا أولئك الذين لا يمكنهم أن يصبحوا أبطالا عندما يتطلب الأمر ذلك... يجب على الإنسان أن يكون بطلا إذا قرر أن لا يكون خائنا..»

بريخت كثيرون هم الأبطال الذين ابتلعهم التاريخ, منهم من تم هضمه ولفظه ومنهم من كان عسيرا, وظل حاضرا ينتظر «بطلا» من زمان آخر أن يحرره من بطون الكتب, ومن هنا تأتي حاجة الشعوب الى «المفكر» والباحث الذي يقدم الاختلاف ويستخرج حقيقة موجودة لكنها مغفلة, «أم نحن, لسبب أولآخر, نزّور التاريخ والذاكرة «!! ولكن إلى أي درجة يستطيع عرض مسرحي ما أن يحيط بتجربة إشكالية وجدلية لشخصية كالسُهروردي «المتناثر بين الحطام, حطام الزمن والغبار والتاريخ الرسمي المريب؟؟» كان هذا هوالتحدي الأول الذي واجه الكاتب والمخرج «غسان جباعي» عندما تم الاتصال به من قبل وزارة الثقافة وتكليفه بإخراج هذا العمل, الذي اعتمد نص الأستاذ «عبد الفتاح قلعجي». ولكن النص لم يبق على حاله, فلم يتم الاتفاق مع المؤلف على بعض الحقائق التاريخية. واقترح «الجباعي», إعادة إنتاجه على الشكل الذي رأيناه, منطلقا من حقيقة «..إننا نمتلك تراثا معرفيا سباقا يحق لنا أن نعرفه ونحلق في أجوائه الغنية بالهواء النقي ونغوص في مياهه العميقة إلى القاع, بحثا عن المحار, كي لا نصبح , كما قال «السهروردي «.. كالدابة التي تحمل أثقالا ولا ترى في مخلاتها غير الشعير!» تراجيديا إنسان شقي بعقله شهاب الدين السهروردي. الشهيد «ولد في سهرورد بإيران عام 549 هـ إبان الاضطرابات المغولية. قرأ الحكمة وأصول الفقه على الشيخ مجد الدين الجيلي بمدينة «مراغة» في أذربيجان, ورحل إلى أصفهان, حيث ترجم رسالة الطير لابن سينا إلى اللغة الفارسية, ثم انتقل إلى ديار بكر, وأحسن استقباله الأمير السلجوقي عماد الدين بن أرتق الذي أهداه السهروردي كتابا سماه باسمه هو«الألواح العمادية» لم يكن متصوفا ولا شاعرا.. لا فيلسوفا ولا مفكرا بل كان ذلك كله.. اعتبر زاهدا واعتبر زنديقا, وكما جاء في كلمة المخرج: « كثيرة هي المصادر التي تتحدث عن «السُهروردي», السيميائي الساحر وقليلة هي المصادر التي تتحدث عن الإنسان العالم والشاعر. ولولا كتبه ورسائله وأشعاره لفقدنا البوصلة وتهنا في الغبار. ولذلك عدنا إلى الحكاية حكاية الإنسان المثقف والمفكر الذي شقي بعقله, وكان ذنبه الوحيد انه من أولئك الذين « يتفكرون في خلق السماوات والأرض» لنجد أنفسنا أمام تراجيديا ملحمية كلاسيكية تتحدث عن عظمة الإنسان» ولكن, وكما في كل الأزمان يكرر التاريخ نفسه وتنتصر التهمة الحاضرة دوما: «التكفير» ومن هنا تأتي خصوصية التجربة: « إن تجربة «السُهروردي» هي تجربة الصراع المرير, عبر التاريخ, بين الفكر والسلطة , بين الكلمة والسيف, بين الحلم والواقع , بين التفكير والتكفير.. وإذا كنا نملك حق الانحياز لأحدها فإننا ننحاز حتما للأول وننتصر لحق الاختلاف , وحق الحوار, بالأفكار الخلاقة , كما حلم «السُهروردي» بنور الأنوار الذي سيشرق ذات يوم ليملأ الكون عدلا وبهجة وجمالا.. ومن حقنا أن نحلم جميعا بالجنة, لا أن نتسابق ليرسل كل منا الآخر إلى جهنم..» العمل الأكاديمي المنهجي كنا أمام عمل أكاديمي نموذجي ومنهجي على كل المستويات المسرحية- الفنية. بني النص بشكله الكلاسيكي الواقعي, وبداية الأحداث كانت من وصول «السهروردي» الى الشام قبل سفره إلى حلب. وتطور النص دراميا عبر مشاهد أبرزت صراع الشخصيات في الفعل وردة الفعل بين منضومتين: (المتنورين والمتعصبين) وانتهت الى الحكم بالموت, عبر سلسلة من الحوارات المثقفة التي أظهرت الخط العام لرؤيا العمل, تضمنت حججا قوية وذكية, فكان حوار الحجة الفقهية والرد المنفتح «فكريا لكلتا المنظومتين, فأعداء «السهروردي» علماء حلب. أظهر النص مستوا آخر من الصراع: بين «السهروردي», , وبين نفسه, ممثلة بمشاهده مع الشيطان الذي لعب نفس الدور التقليدي «الميثولوجي» و«الديني» له وهي الإغواء. وقد أظهر هذا المستوى الجوانب الروحية العميقة في شخصية «السهروردي», حيث كان «لهب», أوالشيطان, المحرض والمداعب لتلك الروح المعذبة والسامية بنفس الوقت, وأفضى «السهروردي» فيها بالكثير من الأجوبة الوجودية في حوارياته مع «الشيطان» مظهرا قلق المفكر والفيلسوف, ومن جهة أخرى, أضاف ذلك الجو«الشعري» إلى العمل عندما كان يحاججه بشعره, فتلا مجموعة من أجمل أشعار «السهروردي»: على العقيق اجتمعنا نحن وسود العيون ما اظن مجنون ليلى قد جن بعض الجنون خدم الديكور «الواقعي « أيضا أسلوبية الإخراج في العمل. فكان كتلة ضخمة في وسط المسرح مقسمة بدورها إلى كتلتين وكل منها تدور على قاعدة فيتغير الديكور حسب المشهد فأصبح مرة «القلعة, مدخل المدينة, مدرسة الحلوية, القصر وغيرها..» واستطاع تجسيد فكرة «التغريب» عندما حرك «السهروردي» بقيده فتحركت القلعة -التي رمي في بئرها بئر حبس الدم في حلب حتى مات - بتوازن مع تحريك يديه. وترافقت مع بقية العناصر الأخرى كالموسيقى والإضاءة لتعلن اكتمال العناصر الفنية. التغريب وملحمية الخيار الفني اختفاء المخرج في مسرح بريخت يوجد رفض للإيهام المسرحي, ويسعى لخلق ذلك الحاجز بيننا وبين الشخصيات والعمل, ويريد منا معرفة أن ما نراه أمامنا هي شخوص تؤدي أدوارا وليس حقيقة, من يحث أنه يتوجه إلى العقل لا إلى القلب, ولا يسمح للمشاهد بالانغماس بالحالة العاطفية للعمل. وبذلك يكون التحريض على «التفكير» في الحدث وبنى الشخصيات وليس الوصول إلى حالة حالة «التطهير» التي تعتبر إحدى ركائز المسرح الملحمي. ويأتي التغريب من إسقاط الغرائبية على الواقع , أوالعكس. فكان جوالحلم والرغبة, «تبارك», الشخصية الموجودة داخل عقل «السهروردي» والتي أعطته الزمرد من الحلم , « غرائبيا» , ليسحقه» واقعيا» وتبنى على هذا الفعل النظرة الزاهدة للسهروردي في واقع العمل, عندما سحق «السهروردي» العقيق الذي يساوي ثروة قائلا: «لوأردنا الدنيا ما غلبنا عليها» والجوالآخر «لهب» الشيطان قرين «السهروردي», الذي يمثل صراع «السهروردي» مع نفسه الأمارة بالسوء. وهوشيء أتى على تفسيره في العمل ولكن أتى مخالفا للدين في تفسيره للملائكة:»اعلم أن في كل جسم جوهرا روحيا غير مرئي هوالنفس الكلية. وقوى الطبيعة من قوى النفس الكلية. الفلاسفة يسمونها قوى الطبيعة وعلماء الشرع يسمونها ملائكة..», إلا أنه كـ «فكر» كان لبنة تابع منها العلامة «ابن عربي» وكانت إضافة للعلوم الإنسانية وعلم النفس. فقد آمن بروح الأشياء وأنسنها واعترف بنديتها الروحية. الراوي والمتحفية الفنية وكان الراوي شخصا معاصرا يشير بيديه إلى الماضي. يلبس لباسا معاصرا, وعندما يدخل يتجمد المشهد للإيحاء بأن هذه الشخوص تقبع الآن في متحف التاريخ ونحن نتكلم عنها ونستحضرها. ولتدعيم ذلك انشد الراوي مقاطع من شعر «محمود درويش وإياد شاهين», الشاعرين المعاصرين, وأعطى الراوي إيحاءا آخر وهوأن أزمة الفكر والمفكر المخالف للقطيع «يشقى بعلمه وفكره» في كل العصور, وكناية عن تتابع المعاناة لرجال اختاروا أن يسيروا خارج السرب, رغم كامل يقينهم «أنهم لا بد هالكون», في مجتمع قرر «جماعيا» أن يقفل باب الاجتهاد, ليس في الدين فقط ولكن في الحياة. «السهروردي» مؤرخ خيال الظل لا نعرف بالضبط إلى أي زمن يمتد «خيال الظل» في تاريخنا العربي, ولا نملك سوى تأريخ «ابن دانيال» وإذ بنا نكتشف, من خلال هذا العمل, أن «السهروردي» قد قال شعرا بهذا الخصوص وكان التوثيق الأعمق على وجود هذا الفن, وقد نفذ مشهدا طويلا لـ «خيال الظل» في المسرحية خدم بها التيار الداخلي للنص والذي كان حكاية ترجعنا إلى زمن قبل «صلاح الدين وسيف الدولة « إلى زمن الفراعنة, اختصر لنا بها مواصفات الحاكم, ووجوده المحمي « بالعسكرتاريا» في لحمتها الأزلية بينها وبين رجال الدين!!! وهكذا يكرر التاريخ نفسه إلى اليوم: رأيت خيال الظل أكبر عبرة لمن هوفي علم الحقيقة راقي شخوص وأشباح تمر وتنقضي سريعا, وأشكال بغير وفاق تجيء وتمضي تارة بعد تارة وتفنى جميعا, والمحرك باقي‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية