السياســة أضيــق مــن العــدوان
شؤون سياسية السبت 3-1-2009م نحن والحدث الرهيب والعقل والألم في الدوامة، حتى لكأنه أرتج علينا ووقعنا أسرى الدائرة المغلقة حيث البدايات نهايات والنتائج مقدمات وسلوك الإنسان حينما يكون على هذا المستوى من الإجرام هو الإنسان المجرم ذاته،
وتستثمر العنصرية الصهيونية هذا المناخ الركامي وبصورة مستقيمة أو مواربة يتحرك الذهن العربي إلى نمط من التفسير لكل ما يجري في غزة باعتبارات ومعايير النسق الثاني، أعني نسق المصالح والذرائع والوقائع المنبثقة عن الأهداف السياسية، لكن ما هو في المشهد الحي حطم أبعاد هذا النسق، تمرد عليه دون تردد ولم يعد كافياً أن نلاحق الحدث المؤلم ثم نبحث عن تفسير له في التطبيقات الإرهابية خارج إرادة الإرهابيين أنفسهم، ولا نملك امكانية النفي لمواد هذا النسق الثاني في تفسير الجريمة القائمة الآن على أهلنا في غزة، بالتأكيد هناك أهداف وغايات تتصل بالبرنامج الداخلي الإسرائيلي، وهناك بالتأكيد محاولة محمومة لخلق المقدمات والمؤشرات في وقت مبكر لتكون السياسات الغربية بعد ذلك مشتقة من هذه الوقائع المؤلمة، وبالتأكيد هناك رسائل ووسائل تضخها هذه الجريمة النكراء للفلسطينيين وللعرب وللعالم أجمعين، لكن ذلك كله لم يعد كافياً لالتقاط الدوافع الصهيونية والأسلوب الصهيوني في تطبيقات هذه الجريمة من الإرهاب الرسمي المنظم.
إن السياسة صارت أضيق من الحدث العدواني ومهما ادعت السياسة بأنها تمتلك تفسيراً لسلوك البشر فإنها عاجزة دائماً عن الاحاطة بطبيعة البشر وسيكولوجية البشر التاريخية، وهذه المفارقة الممضّة التي تقدم الإجابات الأولى عن الخصائص النفسية والتاريخية والاعتقادية عند اليهود على وجه العموم، إن الجريمة عبر هذه الخصائص ليست سلوكاً لاحقاً وهي ليست عملاً مضافاً إلى المجرم القاتل نفسه هنا وبموجب الصياغة الأيديولوجية للإرث الصهيوني القائم على التوراة المزيفة والتلمود السري وعلى منطق بروتوكولات حكماء صهيون، وهي البرنامج التنفيذي لمواد الأيديولوجيا الصهيونية, هنا نلتقط المصدر الأهم والدافع الأكثر أهمية في التعرف إلى أبعاد الجريمة القائمة في غزة، إن المجرم هنا قبل الجريمة لأنه منبعها ومنفذها، والقاتل قبل القتل والقتيل لأنه يؤدي واجباً بموجب فكر قديم شاذ يقوم على فكرتين اثنتين، الأولى أن اليهود لهم رسالة ودور وطبيعة هي فوق البشر وبموجب ذلك هم الذين رسموا ملامح الآلهة الخاصة بهم وحددوا للإله الأكبر يهوه وظيفته السرمدية في أنه يضطلع بمهمة تهيئة البشر أعني (الأغيار) (أغومونيم) للذبح في اللحظة المناسبة، وفي ذلك فإن اليهود حينما يذبحون ويدمرون هم معفون من المساءلة، لأن المساءلة في الخير والشر إنما تأتي من خضوع البشر لقانون الإله المطلق، في الحالة اليهودية الإله المطلق هو الذي يخضع لخاصيته من الشعب المختار، فكيف يحق لإله مخلوق أن يقوم أو يحاكم أو يتدخل في سلوك من خلقه؟ ألم يقل معتقدهم: إن بني الأرض من البشر هم حراثون وكرامون عند اليهود وبأنه أينما وطئت أقدام اليهود الأرض فهي ملك لهم؟ وقد أسبغوا عليها بحضورهم تقديسهم الخاص، واستبدت هذه العقلية الايديولوجية بالتكوين التربوي والنفسي لليهود، صار نظام (الغيتو) هو نمط حياتهم والأمن والأمان هو داخل أسوار الغيتو والخوف والخطر هو خارج هذه الأسوار واليهود داخل السور هم الأخيار والبشر خارج السور هم الذئاب والأشرار, ومن المحزن أن الذين هم خارج السور من العرب بصورة دائمة، لم تغب هذه الفكرة عن السلوك اليهودي المعاصر لقد صنعوا الجحور في فلسطين ثم بنوا السور المستحدث الراهن لعلهم في ذلك يحصلون على وجبة من أمان النفس، وأما الفكرة الثانية في المنظومة الايديولوجية الصهيونية فهي القائمة على النظرة للبشر-والعرب في سياقنا هذا هم البشر الآخرون- على أنهم كائنات حية منحطة ملؤها الحقد والشر وواجب اليهود أن يخلصوا العالم من هذا الكائنات المزعجة وغير المأمونة، لعله باجتماع هاتين الفكرتين في المنظومة الايديولوجية الصهيونية نتعرف الآن على بعض من حيثيات وكيفيات هذا القتل المنظم الذي يمارسه العدو الصهيوني في غزة، ولا ندعي أن السياسة انتهى دورها عند اليهود لكن هذه السياسة صارت تطبيقاً رخيصاً وحرفياً للايديولوجية الصهيونية المعاصرة وهم في إسرائيل وفي وجودهم في الغرب لا ينكرون ذلك ولا يتحرجون من وصمة الشذوذ والعار, إنهم يتشبعون بهذه الايديولوجيا الخانقة ومن لا يطبقها منهم أو يطيقها هو كافر وملحد ولا يحق له أن يكون يهودياً وهكذا صارت العناوين بل القواعد الناظمة أخلاقياً ونفسياً وعملياً واضحة تماماً، لا يهودية دون احتقار الآخرين ولا وجود لليهودي بدون قتل الآخرين ولا معنى للكيان الاجتماعي والسياسي الإسرائيلي دون تدمير الحياة وقتل النفس البشرية في غزة بدم بارد وبسادية مغرقة ومتطرفة وهذا ما يفسر لنا كيف أن التهديد بالقتل تحول إلى ايقاع من الإبادة الشاملة، قتلوا الطفل قبل الشاب وقتلوا الشيخ قبل المرأة وفي لحظة واحدة أزهقوا مئات الأرواح ودمروا مئات المباني والمؤسسات الإنسانية البسيطة في غزة لقد حدثت هذه النقلة في السلوك الصهيوني الراهن من مرحلة التوغل في جسد الجريمة الجغرافي والبشري إلى مرحلة الايغال في الدم الإنساني المقدس والطاهر وما بين التوغل والايغال نكتشف باستمرار القوانين الأهم في حياة هذه المجموعة الصهيونية الشاذة وليس غريباً بعد ذلك أن نحاكم أفعالهم بالخاصية الايديولوجية التي تحكم السياسة وتفصلها على قد الجريمة وقدرها، ذات مرة أشار الرئيس بشار الأسد إلى أن هذا المجتمع الإسرائيلي إرهابي بكامله والفرق بين يمينه ويساره هو في كمية القتل ليس أكثر، آن لنا أن نصحو على الحقيقة دون أن نبددها بالتفسير الشارد والمستحدث كما يحدث الآن.
|