الشعر من أجل الشعر
الشعر الحقيقي لا يعرف لأنه مكتوب بلغة شعرية تجعل منه عملاً فنياً خالداً صعب المنال وصعب التحقيق، والمطلوب من قارىء الشعر ومن الشاعر الدخول في حوار مع جوهره لا تعريفاته، فالآداب والفنون استمرت تخوض المعارك الضارية التي تولى الشعر فيها القيادة وأحياناً خاض الحرب بدلاً من الجيوش، ولأن دوام الحال من المحال نجد أن عدداً من الشعراء بدؤوا يجاهرون برغبتهم في البحث عن قصائد مشغولة بهموم الشعر وحده، ويذهب أحدهم أبعد من ذلك فيرى من خلال تجربته، أن الشعر بما هو عليه غير قادر على تحرير الأوطان، وأن الفقر والأمية والتخلف يقضي عليهم الوزراء والمؤسسات المتخصصة، وأن هناك فرقاً حاسماً بين الخطاب السياسي والأيديولوجي والاجتماعي من جانب والنص الإبداعي من جانب آخر.
إذاً لقد أنجز الشعر العربي ثورة الشكل بنجاح كامل، وانطلق بعدها ليمارس ثورة ثانية في بنية التعبير وهي تشكل التحدي الأكبر والأعمق لشعراء القرن الحادي والعشرين، وتضع أمامهم مجموعة من المهام الجوهرية في مقدمتها تطويعه لموجبات عصر جديد، وإعادة ثقة الإنسان فيه بوصفه كائناً روحياً يستمد تكوينه من استحضار عناصر الوجود المادية والمعنوية في نظام تعبيري لا يقف عند قضايا الشكل، ولا يكف عن طرح أسئلة الوجود.
المتنبي الشاعر المؤرخ
الشاعر ليس مصوراً فوتوغرافياً ولا مؤرخاً، وهو مع ذلك مصور بارع وحامل للتاريخ أكثر من أي مؤرخ موضوعي، وبذلك يكون المتنبي المؤرخ الحقيقي لسقوط الحضارة العربية كما قيل عنه، فقصائده الحزينة استطاعت أن تشم الحريق الكبير في جسر الدولة العربية قبل أن تخترق النيران الجلد وتصل إلى العظم، وما قدمه من شعره عن تلك النكبات أكثر خلوداً وبلاغة من أي مسرح أو نحت أو تصوير، هو ذا حال الشعر يعيش لحظاته الملتبسة منفصلاً عن الواقع حيناً، منغرساً في ترابه حيناً آخر، فهو في لحظة شديد الإعجاب بالشعر بوصفه الجنون النبيل، وفي أخرى يراه أبجدية زائفة إذ لم يصادف الشاعر ظرفاً أسوأ من الظرف التاريخي الراهن الذي يمثل بداية الانهيار المريع في تاريخ العرب سياسياً وثقافياً، لكنه رغم محنته «لا شيء يمسك العالم من الاندثار سوى الشعر» وإذا كان من خوف عليه في زمن العولمة فالخوف من تدمير الخصوصية وإشاعة الاستنساخ، لأنه لا يجب على الشاعر أن يكرر نفسه حتى لو كان في قرية كونية يأكل الناس فيها أطباقاً متشابهة، ويرددون أغاني متشابهة.
ولا يزال الجدل مستمراً
جدل عقيم لا يزال يثار حول الشعر وأشكاله وقضاياه، لكن المبدع الواعي يدرك تماماً أن القديم يكمل الحديث لا بديل لواحد على حساب الآخر، فقصيدة النثر في أحسن أحوالها لم تكن بديلاً عن قصيدة التفعيلة، كما لم تكن قصيدة التفعيلة بديلة عن العمودية، فقد استمرت تلك الأنماط والأشكال الشعرية في التعايش وعانت جميعها من التذبذب لتؤكد أزمة الشعر، لكن لا نستطيع أن ننكر أن التجديد جزء لا يتجزأ من متغيرات الواقع وتحولاته، فروح العصر الذي يكتب فيه الشاعر قصيدته يفرض شيئاً ما في الشكل واستعمال اللغة، والشاعر والعصر والظروف المحيطة والثقافة السائدة كلها تكتب القصيدة، والذين قالوا: إن القصيدة رسم أو لوحة قوامها الكلمات لم يبتعدوا عن حقيقة الشعر، ولا عن تحديد وظيفة اللغة بوصفها مادته وكينونته الأولى.
الشاعران الحديثان أدونيس وأنسي الحاج فضا الخلاف الدائر على طريقتهما فالأول يقول: «لا يمكن للمبدع أن ينبتر كلياً عن عالم سبقه، لكن من الطبيعي أن يشق في هذا العالم طريقاً خاصاً به، وأن يجيد توكيداً على فرادته».
أما الثاني فيقول: «كم يحتاج الإنسان إلى الإعجاب بما لم يستطعه شخصياً.. فليكتب كل على هواه ولينقل الهواء ما يحلو به» إنه زمن الشعر بامتياز، والتعددية في الفنون والآداب مطلوبة كما في السياسة ولا يجوز أن يلغي طرف ما الأطراف الأخرى.
الصفعات والقبلات
لكن الشعر والنثر يحتاجان إلى نقاد حقيقيين لغربلتهما وفرز الغث عن السمين د. جودت فخر الدين يطرح هذا السؤال في إحدى مقالاته مستفسراً هل لدينا نقد أدبي؟ إذ إن ما يكتب لدينا من نقد أدبي، وإن كان كثيراً لا يشكل ظاهرة أو حركة ذات فاعلية، ولهذا يصبح الكلام عن غيابه، أو على الأقل شبه الغياب، د. عبد العزيز المقالح يخالف فخر الدين الرأي بداية لكن يعود ليتفق معه على أن هناك غياباً تاماً للنقد الحر، وما يترتب عليه من تناول حاد للواقع العربي ومشكلاته المتراكمة بما يتطلبه من موضوعية علمية ودقة في التحليل.
بدوره د. حسن فتح الباب يدعو بشكل غير مباشر كل المعنيين بالنقد الأدبي في الأقطار العربية مشرقاً ومغرباً للخروج من عزلتهم الضيقة والنظر إلى الآداب والفنون بوصفها وحدة متكاملة تعبر عن أمة واحدة وواقع مشترك الملامح والسمات فبضاعتنا النقدية الجديدة بملامحها الأسلوبية عادت إلينا بعد أن دخلت في سياقات وتفاعلات حضارية أفقدتها بعض ملامحها وأكسبتها ملامح أكثر تعقيداً وعصرية.
بيان الحداثة الأول
إنه كتاب «قضايا الشعر المعاصر» لنازك الملائكة التي استحقت عن جدارة لقب رائدة الحداثة لأنها قامت بالمهمة خير قيام فعلى الرغم من الملاحظات السلبية التي قيلت عنه، إلا أنه جاء في الوقت المناسب، وطرح كثيراً من الأسئلة والمحاذير على طريق التجربة الشعرية الجديدة ويرى د. عبد العزيز المقالح أن هذا الكتاب لم يكن بداية الجهد النقدي للملائكة، وإنما سبقته مقدمة ديوانها «شظايا ورماد» عام 1949 الذي كان بمثابة بيان الحداثة الأول إذ إنه أيقظ الوعي لدى القرّاء والنقاد المتابعين لحركة الشعر الجديد.
الذائقة الفنية بين جيلين
هل يمكننا أن نسمي ما يحدث في دنيا الموسيقا اليوم تجديداً وحداثة، أو صراعاً للأجيال؟ إن ما نراه من اجتهادات عشوائية ومن رفض وقبول، لا يدخل على الإطلاق في مجال ما يسمى صراع الأجيال، إنما هو صراع بين الفن واللافن، بين تشويه الإبداع وإدعائه، بين تقليديين يتمسكون بمستوى الإبداع الأدبي والفني ومعاصرين يرغبون في التجديد ويطمحون إلى فن يتحرر من سيطرة القديم لكنه لا يخلو من قواعد ومواصفات فنية لا تصدم الذوق العام، أما ما يحدث اليوم فلا يمكن توصيفه إلا بالثقافة الموسيقية الهابطة، وما ينطبق على الشعر ينسحب على الموسيقا، فحين يمر الشعر العربي وفق تقييم نقاده- بمرحلة ازدهار رغم ما يسود الواقع من اختلاف الأذواق وتنوع الأشكال الشعرية، فإن وضع الموسيقا لا يسر أحداً وما يبدو للناس أنه جديد لا يروي ظمأ النفوس العطشى إلى فن يعيد التوازن الروحي إليه.
الرواية فن عربي بامتياز
«الرواية فن عربي وهي ديوان شعوب أخرى سبقتنا إلى هذا الفن» ثمة ادعاءات كاذبة تروج ما سبق، لكن الشواهد الدامغة من أدبنا العربي قديمه وحديثه تكذب كل من يحاول غمطه حقه وإنكار أن يكون في تاريخه نماذج للرواية العربية، ففي السير الشعبية نصوص روائية متعددة الملامح والرؤى، كما إن في عصرنا الحديث ملامح إبداعية متميزة كما هو الحال عند الروائي الكبير جمال الغيطاني وأحمد أبو دهمان وليلى العثمان، والإماراتي علي أبو الريش والروائي حسن المحيميد والفلسطيني حسن حميد. وفي الرواية العربية كما في الشعر، ثمة عناوين محايدة لا تجعلك تشعر بأنك معها أو ضدها، ولا توحي بما تضم من النصوص، وفيها كما في الشعر أيضاً عناوين مثيرة وصادقة لا تفرض عليك أن تكون ضدها أو معها فحسب، وإنما تدفعك إلى البحث عما وراءها وقد وجد د. عبد العزيز المقالح في الأدب العربي الكثير منها من خلال مداراته في الثقافة والفكر والأدب.