غادر في الاتجاه الآخر ومثلما صرنا نعيش غربة المادة القومية, صارت هذه المادة نفسها غريبة مغربة حتى لقد بدا أننا والمادة القومية نقيضان لا يتقاطعان ولا يتقاربان ولعله بهذا التوصيف نعرف إلى أي مدى تحركت القوى الحاقدة وفرضت لغة الاستعمار والسيطرة نفسها, ومادام العرب لا يمتلكون حافز الانتماء القومي وليس لديهم قابلية هذا الانتماء على المستوى السياسي والاقتصادي والثقافي, فلماذا لا تأخذ القوى الحاقدة بهذه الفرصة?, ترسخ مشاريعها وتطور امتداداتها في الداخل العربي.
لعل ذلك هو التفسير المباشر والعملي والمنطقي لاندفاع الموجات الاستعمارية باتجاه العرب في هذه المرحلة, ونرى الموبقات كلها قد اجتمعت وفعلت فعلها في الواقع العربي, حتى ليصبح القول لم يعد لدينا خلل عربي يمكن ترويضه والسيطرة عليه. بل صار لدينا في الواقع تيار طبيعي متراكم من الخلل حتى لكأن الانحطاط العربي هو الخيار الإرادي وهو المعادل لبنية الواقع الراهن.
تعالوا نذكر بعض العناوين لنكتشف هول الكارثة, لدينا استعمار مباشر في العراق وفلسطين ولدينا استعمار غير مباشر في أغلب البقاع العربية, هناك قواعد وهناك مراكز استراتيجية وهناك منصات للسيطرة على البحر العربي والسماء العربية والأرض العربية, وهناك تناقض ضمن كل قطر حتى لكأن مساحة الجغرافيا والتاريخ لم تعد كافية لاستيعابنا واستمرار عيشنا المشترك, هناك ثروة عربية تبدد على نحو تراجيدي حتى لكأن الفقر والجوع والأمية والتخلف هي مجرد مواصفات لا يليق بحملها أحد سوى العرب. وهناك ثقافات هجينة وفكر سياسي وأيديولوجي مستورد من الكهوف أو من مواخير الغرب, والقائمة مفتوحة وها هي قد أنتجت لحظتين, الأولى هي لحظة المعاناة حتى لقد بدا العربي غريباً عن أرضه وتاريخه وهويته ولسانه ودينه وتجرع جزء كبير من العرب مرارة هذا التدفق القسري الأصفر, ثم جاءت اللحظة الثانية وهي التي تتمثل ببناء قيم جديدة ومعايير جديدة أساسها التسليم بالواقع الراهن على أنه درجة طبيعية في الحضارة المعاصرة وبالتالي فقد أخطأ المفكرون والفكر العربي, لم يكونوا جاهزين لالتقاط الحقيقة وصياغة منظومة فكرية ذات جدوى كما يدعي أصحاب الاتجاهات المستحدثة وعندهم أن النزعة القطرية هي الأساس وأن التوازن يحدث حينما نطرد المادة القومية لنلتقي بشوق مغشوش وشبق تجاري بكل مصطلحات التجزئة والتناقض واستنهاض عوامل التفرقة أياً كانت تسميتها, انظروا الآن إلى التوظيف السياسي للدين والمذهب والآثنية والقبلية والحزب والعائلة, ثم يأتي هذا المدى المحموم في استبدال مصادر القوة من الداخل إلى الخارج حتى لقد صارت العواصم العربية مجرد مواقع مستباحة وكل غربي يرى ضرورة السيطرة السريعة على هذه العواصم وصارت عملية الاستقواء بالأجنبي وضعاً طبيعياً ومشروعاً تحت تأثيرات القاعدة المرة التي يتم الترويج لها الآن والتي تقول بأن العرب لا يتركون لأنفسهم فهم لا يجيدون سوى الاغتيال المنظم فيما بينهم وبأن وجود الأجنبي هو الفعل الحاسم الكفيل بردع العرب عن أنفسهم وبحماية التجمعات من بعضها البعض.
إنها صورة مأساوية وإذا ما أخذنا السياق معها سوف نصل إلى لحظة قد نفكر فيها بالانتماء السياسي أو بالتسليم للشيطان والمجهول, ومع كل أبعاد هذه الصورة المركبة القاتمة فإن ما يلزمنا هو استحضار العوامل الثابتة في الحياة القومية, لأن كل ما يجري الآن هو نسف للثوابت وتدمير للمستقر وبالمحصلة فإن درجة الانحلال والفساد في الواقع العربي تعيش حالة شد بين نقيضين, فهي تتجه نحو الاستجابة للإرادة المعادية وهذا هو الذي يغذي منطق التجزئة ويعطي الذريعة للإغراق في تطبيقات التناقض والتفتت والاختيار الهمجي, وذات الواقع الفاسد المجزأ, مازال ينتمي إلى الثابت القومي وهذا ما يكشف عن درجة الخطر في الواقع العربي وهكذا صرنا نشهد تيارين نقيضين, تيار يروج للواقع ويعمقه ويختلق له البنية الفكرية والثقافية.
كأن أتباع هذا التيار محدودي العدد يرتجفون ويمارسون دورهم في العتمة والزمن الضائع واللحظة المحنطة, اليوم صار رواد هذا التيار وقحين متبجحين ولم يعد لديهم ما يكفي لكشف جوانب الزيف والعهر السياسي والفكري في أدائهم على أن التيار الثاني هو الذي ما زال يحتفظ بالمؤسسة القومية فكراً وسياسة ومعيشة, أيضاً ما زال له هذا الحضور رغم قلة ما في اليد ورغم المطاردة المستدامة ورغم درجة التخدير التي وقعت فيها نسب كبيرة من الجماهير ونسب أكبر من النخب الثقافية والسياسية والإعلامية فإن حالة الشد بين محورين نقيضين ما زالت قائمة, صحيح أنها تتأرجح تغيب مرات ولكنها تفرض حضورها بعيداً عن كل الاشتراطات القاسية والاختيارات السلبية المبرمجة بدقة, أريد أن أصل من كل هذا الكلام إلى سؤالين عبر استنتاجين:
الأول منهما هو: هل سلمت الأمة نهائياً بالكارثة, ألا يمكن أن نحتسب الأمر على أنه حالة انكشاف سوف تؤدي إلى استحقاق في النهضة والنمو والصحوة على مبررات وجودنا وضرورات مصيرنا, إنني ألمح ذلك الخير الضئيل شكلاً والعميق نوعاً ما بين موقف منها , وعوامل وإرادات تتأهب لتجسير الفجوة, والاستنتاج الثاني بالسؤال الذي يتضمنه هو هل يملك العرب إمكانية استثمار آخر ومضات الحياة في خيار طبيعي كالتضامن ولربما الموقف العربي المشترك والتطلع إلى مؤتمر القمة القادم في دمشق على أنه إمكانية لكي يرفع الحكام العرب صوتهم معلنين أنهم ليسوا مجانين, وبأنهم ليسوا على هذا القدر من الضياع بحيث يقيمون الأفراح والليالي الملاح لمواعيد وأدهم.
أليس مؤتمر القمة هذا فرصة, مجرد فرصة على الأقل لكي يوصل الحاكم العربي رسالة للآخرين يؤكد فيها وجوده ويضمنها بعض الفقرات التي تشعر الآخرين بأن العرب ما زالوا أحياء يتألمون ويأنفون وأنهم إذا نهبت ثروتهم فإن كرامتهم لا تزال على قيد الحياة. أعتقد بصورة منهجية أن ما يدعو للتجمع القوي في الزمن الصعب متوفر تماماً في هذه اللحظة, وهذا قانون موضوعي في الحياة السياسية وفي الأداء العالمي لهذه الحياة.
على الأقل أن يجتمع العرب ببساطة لأنهم في جوف الخطر, بالأمس تحركنا على خط الحياة, تباحثنا أنجزنا أول مشروع وحدوي في التاريخ العربي المعاصر بين مصر وسورية, وبالأمساأنهزمنا عسكرياً ونمت إرادة الإصرار على اللاءات العربية المشهورة في الخرطوم بعد نكسة حزيران, وبالأمس تحركت المسؤولية, حوّلها الرئيس الراحل حافظ الأسد إلى مشروع إرادي وأرقام ووقائع. وكان التضامن العربي وأنتجت هذه اللحظة حرب تشرين المجيدة, ومضات ليست غريبة وليست من المتاحف, ما زلنا ننتمي إليها وما زلنا نعيشها.
ماالذي حدث للطرفين, الحاكم العربي والإنسان العربي, كيف تدهورت الأمور إلى درجة التطويح بضرورات التضامن واحتساب اللقاء على مستوى مؤسسة القمة باعتباره حسابات مترنحة ضيقة أو لكأنه حالة تصفية حساب لاتجاهات كبرى بجواذب صغرى, كل العالم يداخله الاختلاف وكل طرف له رؤيته ومصلحته, لكن أحداً لا يستطيع أن يلغي المسارات الكبرى لصالح النتوءات والحسابات الصغرى, أليست تلك قاعدة فقهية في سياسة كل أمم الأرض, حيث أساسها دفع الخطر الأكبر بالخطأ الأصغر, والمسافة ما بين (الراء والهمزة) هي التي تختزن المأساة العربية المعاصرة, أي مدى من الوساوس والانجذابات الشاردة يمكن له أن يلغينا كبشر وتاريخ وحضارة ومصلحة, لعلها صرخة في موعدها عند البوابة الخارجية لمؤتمر القمة العربية في دمشق, ولسوف ننتظر وإنّ غداً لناظره قريب.