إلا أنَّ سليمان الحلبي - سليمان محمد أمين الملقب (الحلبي)- كان بطلاً حقيقياً, و لا عجب أن تعتبره مصر بطلاً شهيداً, و لا عجب أيضاً أن تعتبره مدينة حلب شهيداً مدافعاً عن كرامة الأمَّة. إذ ولد عام 1777 في قرية كوكان فوقاني(الجزرونية) التابعة لمنطقة عفرين في الشمال الغربي من مدينة حلب, من أبٍ متديِّن اسمه محمد أمين من عائلة(أوس قوبار) . تعلَّم سليمان القراءة و الكتابة في وقت مبكِّرٍ من حياته, فيما كان أبوه يعمل في مهنة بيع السمن و زيت الزيتون إلى أن بلغ العشرين من عمره, فأرسله أبوه عام 1797 براً إلى القاهرة, ليتلقى العلوم الإسلامية في الأزهر, فاستقرَّ في(رواق الشوام) حيث الدراسة و المبيت مع أقرانه أبناء الشام. و لم يلبث طويلاً حتى توطَّدت صلته بالشيخ(أحمد الشرقاوي)أحد أساتذته, فصار يبيت في منزله, وكان الشيخ الشرقاوي قد رفض الاستسلام للاحتلال الفرنسي لمصر, و ساهم في إشغال فتيل ثورة القاهرة الأولى يوم 21 تشرين الأول عام 1798. و كان سليمان الحلبي مع أستاذه الشيخ عندما اقتحم جيش (نابليون بونابرت) أرض الجيزة, ومن ثمَّ القاهرة التي اجتاحوا فيها (الجامع الأزهر) و هم على ظهر خيولهم و عاثوا به خراباً و تدميراً ثمَّ اعتقلوا ستَّةً من شيوخ الأزهر الذين حرَّضوا على الثورة, و منهم الشيخ الشرقاوي, و اقتادوهم إلى القلعة و نفَّذوا بهم حكم الإعدام بقطع رؤوسهم.
بعد أن سقطت مصر بيد نابليون, حاول احتلال بعض بلاد الشام إلا إنَّه فشل فتوجَّه سراً إلى فرنسا عن طريق البحر ليلة الاثنين 16 آب 1799 نظراً لاضطراب الأوضاع الداخلية فيها, و تكتل القوى الأوربية ضدَّه, فولى قيادة جيشه في مصر إلى الجنرال(كليبر) أحد القادة المقربين منه.
بعد تسلم الجنرال كليبر حُكمَ مصر قامت في وجهه عدَّة ثوراتٍ ومنها ثورة القاهرة الثانية20 آذار -21 نيسان 1800, فقام بإهانة سكَّان القاهرة, فاعتقل الكثير منهم, و أقام المذابح في الميادين العامة, و منع القوت/الغذاء عنهم فمات بعض السكان جوعاً, و قام بفرض الضرائب و الاتاوات و المصادرات, بل و النهب, فتزايدت الأوضاع الاقتصادية سوءاً,مما أدَّى إلى تزايد سخط الشعب على الاحتلال الفرنسي.
وهذا ما ألَّب الروح الثورية عند سليمان الحلبي.ففي صباح يوم 14 حزيران عام 1800 توجَّه كليبر في عرض عسكري لكتيبة الأروام الذين انخرطوا في سلك الجيش الفرنسي في مصر, و لما عاد كليبر من استعراضه هذا, قام بتفقَّد أعمال الترميمات التي كانت تجري في دار القيادة العامة, و عقب تناول الغداء مع رئيس أركان الحرب, انصرف مع أحد المهندسين الفرنسيين(بروتان) لمشاهدة ماتمَّ ترميمه ماراً بحديقة السراي, و بينما كان يتحدَّث مع المهندس إذ بشابٍ نحيل متوسِّط الجسم يخرج عليهما, فظنَّ الجنرال كليبر أنَّ هذا الشاب له عنده ملتمساً أو رجاءً, و ما كاد يلتفت إليه حتى عاجله سليمان الحلبي بعدَّة طعناتٍ أصابته في صدره و بطنه و ذراعه, و صاح كليبر: إليَّ أيُّها الحرَّاس. ثمَّ سقط على الأرض.
تمكَّن سليمان من الهرب, لكن الفرنسيين قبضوا عليه و هو مختبئ وراء جدارٍ مهدوم بالقرب من مكان الحادث. و قام الجنرال(مينو) بالتحقيق معه, فاعترف- بعد التعذيب- فأصدر الجنرال(مينو) أمراً بالقبض على الأربعة المذكورين, وَقُدِّموا جميعاً إلى محكمة عسكرية قضت:1- تُحرق اليد اليمنى لسليمان الحلبي(و هي التي طعن بها الجنرال كليبر) ثم يُعدم فوق الخازوق, و تترك جثته فوقه حتى تفترسها الجوارح..
نفذ الحكم بحذافيره ولاحقا الجنرال (مينو) و الذي أشهر إسلامه و صار اسمه(عبد الله مينو) بعد زواجه من سيِّدةٍ مصرية مُطلَّقة, فقد رحلَ عن مصر ومعه جيشه, حيث أرغمته على ذلك الدولة العثمانية, لينضمَّ إلى مسيرة نابليون بونابرت. لكنه وهو راحل لم ينس أن يحمل معه إلى باريس عظام الجنرال كليبر في صندوق, و عظام سليمان الحلبي في صندوق آخر.
إصدار مكتبة الشرق الجديد/دمشق 2007