وفي المحبة أغمس قلمي 00
لطالما دعيت عبر سنين تجاوزت العشرين سنة إلى الكتابة في الصحف ومن ثم المواقع الإلكترونية على شبكة المعلومات الدولية (إنترنت ) لعرض أبحاث جلها في الإعلام - المهنة الوحيدة التي امتهنتها خلال مايزيد على الأربعين عاما - أو لطرح أفكار أو آراءشخصية .تجمعت لدي في هذه السنين التي قضيت منها ما لا يقل عن اثنين وثلاثين سنة في المغترب الإعلامي بين أوروبا وأميركا.وكنت على الدوام ,وبسبب خوف غامض ينتابني من أن لا تكون كتاباتي تحظى بقيمة الوقت الذي قد يهدره قارىء في قراءتها ,امتنع بعناد عن الإمساك بالقلم ونقل ما في الصدر إلى السطر .
إلى أن جاءت لحظة الخير بالنسبة إلي ,وأرجو أن تكون كذلك بالنسبة إلى القارىء أيضا .
حين تفضلت جريدة (الثورة ) مشكورة بتقديم عرض لم يكن في وسعي أن أرفضه ,لابل إني أخال أن ليس في وسع أي إعلامي تجيش في رأسه وصدره آلاف الفكر أن يرفضه ,وهو أنها تتيح لي زحزحة الجني الخائف المتردد عن فوهة القمقم الذي كان يجثم بثقله الخانق فوقه لما يزيد على عشرين سنة تنفست الصعداء ,وشمرت عن ساعد الجد والعمل ,وقررت بداية أن أقوم مقام المؤرخ الذي يؤرخ لبداية صحيفة (الثورة ) ,أعرق صحفنا المعاصرة في قطرنا السوري الحبيب ,وقررأن تنشر مقالتي الاولى هذه يوم الأربعاء الثالث عشر من شهرنا الميلادي هذا - شباط (فبراير) -وهو اليوم الذي يسبق مباشرة أخاه المتعارف على تسميته ( عيد الحب ) .ولم يكن أمامي سوى أن أتذكر أن (العبد في التكفير والرب في التدبير ) , وأنني ما كان لي أن أتجاوز مناسبة لا تمر في العام كله سوى مرة واحدة ,ولا سيما أنها ترتبط بعروة وثقى بأروع وأرقى شعور إنساني ألا وهو الحب .وهنا أستميح إخوتي وزملائي وعددا من طلابي الإعلاميين الواعدين في صحيفة الثورة عذرا في تأجيلي تأريخ عراقة صحيفتنا إلى الأربعاء المقبل , بإذن الله .
لست أدري متى بدأت أشعر بأن يوم الأربعاء هو يوم سعدي وأن الرقم ثلاثة عشر هو رقم حظي ,انطلاقا من تشبث إنساني لا يتجاوز حدود المقبول ,بعالم الغيب والنجوم والأبراج و( حظك هذا اليوم ).وأخالني في هذا واحدا من الغالبية الأعظم من البشر في أنحاء المعمورة, الذين وإن كانوا لا يؤمنون بما تكتبه الصحف والمجلات عن (طوالعهم) في ذلك اليوم أو الأسبوع, يشعرون بشيء ما يدغدغ وجدانهم ويدفعهم الى مطالعة طوالعهم! وكما أنني أشعر, من تجارب متراكمة, أن يوم حظي هو الأربعاء إذ تصادف بخاصة مع الرقم (13), أتمنى لقارئي هذه الأسطر الحظ والسعادة ونعمة القلب المفعم بالحب في أيامه كلها.
وفي إيجاز اختصر به قروناً من الزمان في الحديث عن (عيد الحب) الذي يصادف اليوم والذي استوردناه من الغرب تحت اسم (عيد فالنتاين), أعرض أن هذا العيد يعود في أصله الى احتفال وثني روماني قديم كان يصادف يوم 15 شباط-حسب تقويمنا الغريغوري الحالي- وكان يدعى (عيد لوبير حالياً) نسبة الى إله قديم كان اسمه يتغير الى أسماء قديسين بعد دخول المسيحية القارة الأوروبية. وفي عام 496 للميلاد أعلن البابا ثميلاسيوس يوم 14 شباط عيداً دينياً رسمياً لشهيدين من شهداء المسيحية يدعى كل منهما (القديس فالنتاين), ولم يكن لأي منهما علاقة واضحة بالعشق أو بالحب بين الذكر والأنثى. وبرغم حرص الكنيسة على تقديس ذكرى قديسيها هذين, إلا أن اسم أحدهما ظل ملتصقاً بمشاعر العشاق والمحبين عابراً العصور الوسطى وصولاً الى أواخر القرن السابع عشر حتى أصبح شائعاً أن يتبادل العشاق رسائل خطية قصيرة (يوم فالنتاين). ولعل هذا التقليد يعود الى الأسقف فالنتاين الذي عاش في روما خلال عهد الامبراطور كلوديوس الذي منع الزواج وفق الطقوس المسيحية آنذاك, فرفض الأسقف ذلك جاراً على نفسه حكماً بالسجن نشأت خلال تنفيذه علاقة (صداقة) بين الأسقف وابنة السجان, ما جعل الامبراطور يقرر إعدامه. ويوم الإعدام كتب فالنتاين ملحوظة مقتضبة على قصاصة عبّر فيها عن (صداقته) المخلصة لابنة السجان, مختومة بتوقيعه الشهير: (من فالنتاين الذي وهب نفسه لك). ومن يومها يعتبر العشاق والمحبون هذا الفالنتاين رمزاً لحبهم ويتجمعون, من استطاع الى ذلك سبيلاً, حول ضريحه في احدى القرى الوادعة قرب روما, كما يفعلون مساء هذا اليوم, يحملون شموع (الحب) حتى صباح غد, ويمارسون (شعائر) الحب أمام ناظري هذا الأسقف القديس الذي يقال إنه لم يكن يعترف بالعلاقة بين المرأة والرجل إلا في إطار الزواج الشرعي.
لكن ما يؤلمني, ويؤلم الكثيرين, أن هذه المناسبة التي وجدت لتكريس الحب, أرقى وأنقى مشاعر البشر, قد استوردت من خارج إطار تقاليدنا أولاً, وأصبحت خاضعة لقوانين السوق التجارية ثانياً (نهدر البلايين على شراء بطاقاتها ونشر إعلاناتها وإرسال ورودها الحمراء من دماء الاستغلال التجاري), وأصبحت, ثالثاً, مناسبة يتيمة في السنة كلها بدلاً من أن (نحتفل) بحبنا لمن نحب كل يوم ونتبادل معهم هذه الامنية: (كل يوم ونحن محبون).