والمراكب التي تمخر عباب البحار,ونام على الوسائد في ليالي الأرق, ورافق الأذن أيام تقنين الكهرباء الطويلة, وأطال الحكي والهمس والغناء ونقل أخبار العالم, والعلم والفضاء والاقتصاد, وكان طارداً للوحشة في الليالي الطويلة,وفي الصباحات الباردة, لكن ما إن بلغت إذاعة دمشق الثالثة عشرة من عمرها حتى ولد التلفزيون دون أن يقدر على إطفاء بريق خفقها وسهولة التقاطها, لأنه ولد ثقيل الحركة, بطيء الخطى, قصير الإرسال, عاجز عن التنقل الرشيق في المنازل والشوارع والدكاكين والسيارات, فكيف بالمناطق غير المكهربة?
وأحد الظرفاء قال يوماً: من الظلم أن تقارنوا بين الدراجة الهوائية الخفيفة التي تتريض في الحقول (الإذاعة) وبين الدبابة الثقيلة التي تحتاج إلى الجنازير, في حقول تنقلها المحدودة (التلفزيون), وهذا اليوم بات في ذمة الماضي, لأن الناظر إلى واقع وسائل الاتصال الراهن, تصيبه الدهشة من تفتت أعضاء الإذاعة في الفضائيات المتكاثرة, والانترنت, والهاتف الجوال, بحيث أزيحت إلى الصفوف الخلفية, واستدعاها سائقو السيارات كجزء متمم لضجيج الشوارع وإلحاح الركاب والمتنقلين, وأتذكر دافع الذعر الذي أصابنا (نحن الإذاعيين) في تسعينيات القرن الماضي ونحن نجري حوارات متخصصة وعامة عن مصير الإذاعة في عصر الفضائيات والانترنت, لنخلص إلى ضرورة خروج الإذاعة من جلدها, والبحث عن موضوعات وتقنيات جديدة إذا كانت مصرة على البقاء والجدوى, هي التي تملك أكبر أسرة بشرية إعلامية على الإطلاق, (ما زال أبناؤها يتسربون كماء النش كلما تلامحت لهم فرصة ضئيلة للعمل في التلفزيون, ولو أقل من كومبارس, بسبب الوعود المادية)..
أدمنت مع جيلي مرافقة الإذاعة في فترة الصباح وأواخر الليل, وهما فترتا ما قبل وما بعد النشاط الاجتماعي, ومن الإذاعة ذاتها تعرفت بكتب ثمينة وأعلام في الفن والثقافة على تنوعها مسرحاً, وسينما, وشعراً, وقصة, ورواية, فلا إذاعة ولا صحيفة تستمر في وجودها الحيوي, دون تحليل المضامين, حتى لو كان الصحفي لاعب أكروبات, والمذيع بلبلاً غريداً, لأنه سيغدو كبلبل (أندرسن) المعدني الذي لا يتقن إلا لحن صانعه, الممل بتكراره الرتيب, لا يضاهي التغريد, والتغريد لمذيع موهوب يؤمن أن الإذاعة إحدى وسائل التثقيف وإيقاظ قدرة المستمع على طرح الأسئلة المتعلقة بالذات (معرفة ووجوداً) والوطن (مع إكبار هذه الكلمة وإخراجها من الابتذال, واللحن الميكانيكي المعدني), ومع اعترافنا وتسليمنا بأن الزمن اختلف, ولم يعد بوسع الإذاعة أن تكون جامعة للتعليم المفتوح, وطرح مقدرات في الفلسفة, وعلم النفس, والأدب والطب, إلا أن ما يحصل بشكل عام في البث الإذاعي الطويل, بات يحتاج إلى مسؤولية أكبر تجاه المستمع الذي ازداد علماً ومعرفة وإدراكاً, أما العناية الخاصة فتتعلق بالفترات الصباحية المفتوحة على الهواء, وهي الفترات الأكثر استقطاباً بحكم توقيتها, ستة أيام في الأسبوع يعلو فيها مذيع, (مذيعة), منبر المايكروفون, يحيي مستمعيه بنشوة وثقة بالحضور الشخصي, ثم يطرح فكرة عائمة, مستهلكة غالباً, ليبدأ بعدها بمحاورة المستمعين المشاركين حتى باتوا ينافسون هؤلاء المذيعين بالنجومية, وربما لو فكروا بتقاضي أجور لصرفت لهم على قدم وساق ما داموا يملؤون ساعات البث بأفكارهم وأحاديثهم! اليوم بمجرد أن ينطق المستمع كلمة التحية تعرف جموع المستمعين, المفترضة, أن هذا فلان من الرقة أو دمشق, أو دير الزور, أو درعا, وباسمه العلَم, ليبدأ بعدها سيل المجاملات مع المذيع, أي مذيع ما دام هو الطرف الآخر في الاتصال (وليس الحوار) فيصبح نجم النجوم, العارف, المبجل, الخارق (النفاق هنا يغدو غذاء روحياً للطرفين), وتنتهي الاختبارات الشفوية اليومية المستمرة بلا طائل إلا الثرثرة, تنتهي إلى لا جديد على الإطلاق في الموضوع المطروح, ولأن الحديث أطول من طويل, بانتظار متصل آخر, لابد من الهذر, ومرور بعض المغالطات وبعض ما يناقض أطروحات الإعلام التقليدية, كأن تشرح إحدى المذيعات أساليب البخل الذميم, وتغطيه بالذرائع, فتطرح مثالاً عن بخيل أطفأ مصباح غرفة فارغة, متذرعاً بهذا الفراغ, بحيث يحار المتلقي بعد ذلك بإعلانات وزارة الكهرباء المستمرة عن ضرورة إطفاء المصابيح في الأمكنة التي لا نشغلها, أو نغادرها, فمن المحق الوزارة أم الإذاعة? أهو ترشيد الاستهلاك العقلاني, أم البخل الذميم? وأي بلبلة تسببها رسائل الإعلام المبجلة ذات المصداقية إلى جمهورها?
يسقط بعضنا في وهم أن المذيع يجب أن يكون علامة على طريقة ابن سينا والفارابي, وابن زهر, وعمر الخيام,ربما لذلك نجده متورطاً في كل القضايا الحياتية والفكرية, متناسياً أن العصر انتهى إلى التخصصات الدقيقة, وأغرب الأدوار التي يلعبها المذيع هو دور نصوح أفندي, الذي يفرض وبفوقية لا رائحة للتواضع فيها, آراء قاطعة, مانعة في قضايا الزواج والطلاق والجيرة,والبيئة والسياسة والمقاومة, والعلاقات الدولية, متوهماً أن الضيف في الاستديو أو المستمع مجرد تلميذ أمي جاهل يتلقف جواهر العلم بالمجان.
واضح أكثر من عين الشمس أن أساليب الاستهلاك دخلت حتى في مهنة الإذاعة الشديدة الدقة, بحيث يتهرب بعضهم من الجهد في البحث عن رسالة إعلامية توجه إلى المستمعين الذين كبروا ووعوا ماذا يجري في العالم, وواضح ذلك الاتكاء الكسول على ثقافة المذيع الوافرة المزعومة لتسعفه في كل الأوقات والمناسبات (في حين أن الوقت لا يتيح للكثير منهم أن يطالعوا الصحف الوطنية, ومنها هذا المقال بالذات الذي سيجعلني أخسر ودهم) مع موضوعية اعترافي بندرة منهم ما زالت تنتمي إلى مدرسة التحضير والبحث والتواضع واحترام مستوى المستمع وثقافته.
ما كنت أتصور يوماً أن تدير الإذاعة ظهرها للمنافسة الشديدة المفروضة عليها من وسائل الاتصال المستجدة, بهذه الطرائق, التي تذكرنا بالجعجعة, وتواضع الطحن, وأن تعتمد أسلوب الفن للفن, آسفة عنيت الحوار للحوار..وتزجية الوقت لاغتيال الوقت..المؤلم أن هذا الوقت مدفوع الثمن والمدهش أن لا قابض راضياًٍ عن هذا الثمن..رغم رخص السلعة واعتمادها العامية, لكأن الإذاعة الرسمية لا علاقة لها بهيئة تمكين اللغة العربية, وقد تخيلناها أكثر وسائل التمكين قوة واستخداماً, لكن دون لفظ (الأوكي) التي لا ندري من سمح باستخدامها بهذه الكثرة,والبساطة في لغة التخاطب مع جمهور المستمعين.