كان نظري معلّقاً بالشّاشة، بالشريط الأزرق الباهت، بالاسم الذي مرّ توّاً مشعلاً بحر كبريتٍ في دمي، خرج صوتي من فمي المغلق، تمتم متوسّلاً: لا يا رب... أرجوك لا... أرجوك. مرّ الاسم للمرّة الثانية « ياسمين» وتكهربت عصافير روحي كلّها ...سقط رأسي المتّكئ على كفّي وسقط صوتي.
أول مرّة انتبهت فيها للفرق بيني وبين ياسمين كانت في درس التربية الدينية عندما خرجت من الصّف بضفيرتها الطويلة وبالمريول الذي علاه شال الصوف الأخضر، تركتني وحدي في المقعد مكتوف اليدين وساهياً في اسمها المحفور على الخشب الغامق، ولاحقاً اكتشفت السبب فاسم أبي أحمد واسم أبيها جرجس والفرق في الأسماء فرق. آنذاك لم أحزن كانت تكفينا دروس الرياضيات والعلوم والقراءة في المدرسة وتكفينا فقاقيع الصابون والكرة المتسخة واللهو المحموم بمراكب الورق مع أولاد الجيران في الحي، وكان يكفيني أنا صوتها لحظة توقف اللعب كلّ مساء: هس... اسكتوا وانظروا، فنحدّق كلُّنا بالسماء وبالشمس المحمرّة على خدًّها وبالضوء الناعم المترقرق على تلّ قريتنا.
ويوماً فآخر ماعاد يكفينا ما كان يكفي، كبرنا أكثر ممّا شئنا وضاقت علينا أحلامنا الصغيرة الصغيرة، فانصهرت البهجة بين أصابعنا وطيّرت فراشات الذاكرة. تفاصيل كثيرة باعدت بيننا، كان بعضها أتفه من بعض... آخرها القرميد على سطح بيتهم وسيارة أبيها من جهة ومدخل بيتنا المرصوف بالحجارة وحمار أبي من جهةٍ ثانيةٍ. يوم كسرت رجلها وجدت في ملازمة السرير فرصةً ذهبيةً في النأي عني، وقفت كالمتعبّد أمام شرفتها مستعطفاً جلالتها النظر دون أن ترقّ أو تستجيب، وقبل انقضاء الشهر أرداني المرض أنا الآخر في سريري وإذ بي حينها أراها قبالتي على عكازين مثل قمرٍ تفتّح للتّو، عاتبتها في غفلةٍ عن أمِها وجارِتُها « أمّي»: جئتي! الآن!، همست: الآن.... وكلّما تألمت سأجيئك ولو طيراناً، كانت « الآن» أنقى ما فرّ من فمها، أحلاه، منحتني الحروف الأربعة شعوراً لذيذاً بالاطمئنان، أودعتني النشوة التي تنقص أية سعادة تالية، وغذّت فيَّ يقيني بأنّي في حماية الله وإلى الأبد.
بتٌّ أذوب كلّما واجهتني مسحة الحزن على أهدابها، بتُّ أتحاشاها كيلا يبان بعينيَّ الأسى، كيلا أرتبك كلّما أرهقني بصرّ يهفو لعينيها، للعينين البنيتين اللوزيتين البارقتين من حرارة. كنّا عاقلين جدّاً حدّ السقوط بالخيبة... حدّ الخذلان، تركنا الكلام يتراكم في حنجرتينا حتى هنّا وهان، وبات الصمت جرعة الصبر الوحيدة. وبين ليلةٍ وضحاها اتخذت قراري بالتحايل على ضعفي فاخترت الهرب لأنه في أمثالنا ثلثا الرجولة ولأنّه في حصاري أقل السّبل عذاباً و إهلاكاً لم أترفق بها، أبلغتها نيّتي في الهجرة، أطرقت في التل البعيد، ابتلعت دموعها دون أي تعقيب، ونزف قلبها في صدري.
بكت أمي على كتفي، وشتم أبي الغربة، وساومني الأصدقاء كيما أطرح الفكرة جانباً، لكنّ أحداً فيهم لم يعرف أنّ وطني كان... ياسمين وأنّي اخترت فراق وطنٍ لا يُمتلك.
في فرنسا أغراني امتلاك مكان ... أي مكان ولو كان في قلب غريبةٍ أجنبيّة فامتلكت، وامتلكت عملاً وبيتاً وأسرة وامتلكت وامتلكت... غير أنّ شيئاً ممّا ملكت لم يعوّض خسارتي ما فقدت. استغربت زوجتي يوم زفافنا أمر الصورة المعلقة في الصالة، صورة باهتة لا تتماشى مع الأثاث العصري لتلٍ بعيدٍ وشمسٍ غاربةٍ وبيوتٍ بعيدةٍ، فاوضتني مراراً على استبدالها لكن دون جدوى، كان التلّ اختصاراً لياسمين، فيما كانت هي اختصاراً لذاكرتي السعيدة، ولو كنت وجدت البديل لما تردّدت لحظةً في التخلّي عن قصاصة ورق، لقد نسيت في دوّامة السنين والأطفال والعمل ذكرها فتاتي ذات الضفيرة الطويلة، إلاّ أنّ شيئاً في الصورة ظلّ يهيّج الوجد في مشاعري كلّما تبلّدت، فأدركت متأخّراً أنّ كل ما يمكن استبداله في الحياة... رخيص.
لم يساورني الشكّ يوما بأن صورتي المعلّقة هي بعضي، بعضي النظيف الفَرِح رغم انف الدنيا، لهذا أجدني الساعة مهزوماً، فهي الباسمة.. الناعمة... الحنون فقدت منذ مدّةٍ لمعة السحر، ذابت السماء فيها... بَهُتَ التل... و اعتلّت في البيوت البعيدة الملامح، ومذّاك وأنا أبحث في نشرات الأخبار عمّا يطمئنني عن صحّته تلّي أنا، ولست أعلم كيف لهاربٍ مثلي أن يعيد لثغره بسمةً أحيتني...
رفعت رأسي حدّقت بالشاشة، بالاسم الحبيب الذي سبقته عبارة « المواطنة الشهيدة»، كنت على ثقةٍ بأن أحداً ممن سيقرؤون الاسم في هذه اللحظة لن يعلم أنّه لصبيةٍ لا تتكرّر، وحدي أعرف كم تكره المعكرونة واللون الأصفر والكعبُ العالي وكم تحب الشطرنج و فيروز و قصائد ابن الفارض ومنظر السماء فوق تل قريتنا، وحدي صدّقت عهدها لي أن تأتيني ساعة أتألّم ولو طيراناً ولو من آخر الدنيا.
نهضت موشكاً من رجفةٍ أترنح، وقفت قبالة الصورة سألت في صمتٍ التلّ الذي تولّى حراستي طوال الوقت: يعني مات الوطن؟ ردّ... هل مات؟، لم يجب، رمقني مستنكراً وبقسوة، صوّر لي دموع أمّي على كتفٍ غير كتفي، وصوّر لي عينين بنيتين مغمضتين... مغلّفتين بروحٍ غير روحي، تنثرُ فوقهما ياسميناً أبيضَ كفٌّ غير كفّي، خرج منه صوتٌ طفليٌ: هس ...اسكتوا وانظروا، انقضضت عليه، كسّرت الصورة كالمجنون، ظهرت زوجتي أمامي في فزعٍ، أسعدها المشهد وكادت تعلّق: « وأخيراً» ، لكني أسرعت إلى الهاتف قبل أن تفعل، تبعتني، تابعت رعشة جسدي باستهجان، لاحقت عيناها إصبعي المتصفح دفتر الهواتف، والمتوقف فجأةً تحت رقم... مكتب الطيران، سألت: ماذا ستفعل؟، لم أجب، ستسافر؟ إلى أين؟ ماذا حصل؟، لم أجب... لم أجب، رفعت السماعة فأمسكت يدي بغضبٍ وهدّدت : لن تفعلها، طلبت الرقم بيدي الأخرى، تجهّمت كما لم تفعل في حياتها وسألت في استسلام: سوريا... الآن؟ تخيّلت التلّ المكلوم يبسمُ لي إن تقابلنا، مسحتُ بكمّي حممّاً بلّلت وجهي.... وأجبت: الآن سوريا.