والصهاينة يعلمون جيدا أن لاخطر عليهم إلا من مقاومة الشعوب، فالقبول بالدولة الصهيونية من قبل الحكومات لا تحقق لها الأمن الذي تريده، ولا يكفي هذا لضمان استقرارها، لأن الخطر عليها إنما يأتي من الشعوب العربية والاسلامية ولا طريق للوصول إلى هؤلاء إلا عن طريق ما يسمونه بـ (التطبيع).
ومن هنا ، فالتطبيع هو: مصطلح صهيوني يراد منه أن تقبل ( إسرائيل) في المنطقة بكيان مستقل معترف به، وأن يكون لها الحق في العيش بسلام وأمن، مع إزالة روح العداء لهم من جيرانهم، ولا يكون هذا إلا عن طريق إحداث تغيير نفسي وعقلي جذري عند المسلمين، عن طريق القضاء على روح الجهاد، أو إضعاف تأثير ذلك عليهم.
ويرى البعض أن التطبيع فلسفيا يعني تحويل كل ما هو غير طبيعي أو غير عادل أو ظالم إلى نقيضه، وفي حالة (إسرائيل) يصبح موضوعنا هو تحويل المشروع الاستيطاني الإحلالي الصهيوني في فلسطين إلى أمر طبيعي أي الاعتراف بشرعية هذا الكيان وأحقية وجوده في الاساس، لكن لا يتفق الجميع مفاهيمياً حول ذلك.
فالتطبيع هو تغيير ظاهرة ما بحيث تتفق في بنيتها وشكلها واتجاهها مع ما يعده البعض طبيعيا، ولكن كلمة «طبيعة» كلمة لها عدة معان، وقد استخدمنا هذه الكلمة بمعنى الطبيعة- المادة، والتطبيع في هذه الحالة يعني إعادة صياغة الإنسان حسب معايير مستمدة من عالم الطبيعة المادية بحيث تصبح الظاهرة الإنسانية في بساطة وواحدية الظاهرة الطبيعية المادية.
ولكن كلمة «طبيعي» يمكن أن تعني «مألوف» و«عادي»، ومن ثم فإن التطبيع هو إزالة ما يعده المطبع شاذا، ولا يتفق مع المألوف والعادي و«الطبيعي».
وقد ظهر المصطلح لأول مرة في المعجم الصهيوني للإشارة إلى يهود المنفى (العالم)، الذين يعدهم الصهاينة شخصيات طفيلية شاذة منغمسة في الأعمال الفكرية وفي الغش التجاري، ويعملون في أعمال هامشية مثل الربا، وأعمال مشينة مثل البغاء. وقد طرحت الصهيونية نفسها على أنها الحركة السياسية والاجتماعية التي ستقوم بتطبيع اليهود، أي إعادة صياغتهم بحيث يصبحون شعبا مثل كل الشعوب. ومع إنشاء الدولة الصهيونية اختفى المصطلح تقريبا من المعجم الصهيوني بسبب حاجة الدولة الصهيونية الماسة لدعم يهود العالم لها.
ولكن المصطلح عاود الظهور مرة أخرى في أواخر السبعينيات بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد.
ولكنه طبق هذه المرة على العلاقات المصرية- الاسرائيلية، إذ طالبت الدولة الصهيونية بتطبيع العلاقات بين البلدين ، أي جعلها علاقات طبيعية عادية، مثل تلك التي تنشأ بين أي بلدين، وقد قاوم الشعب المصري هذا التطبيع.
فيما قال الكاتب الأردني عبد الله حمودة ( جريدة البيان الإماراتية:5/شعبان /1421): «إن كلمة التطبيع ليست كلمة عربية بمفهومها ومعناها ، فهي كلمة إسرائيلية، فهي لم تأت من طبع يطبع، فأساس الفكرة هي أنه في عام 1967 أرادت (إسرائيل) أن توفر شريحة من العرب يتعاملون معها كعملاء وجواسيس، ولأنه من الصعب أن تشير بشكل مباشر إلى مسألة العملاء أو الجواسيس قالت: إن هؤلاء هم مطبعون، وبهذا الفهم يصبح معنى التطبيع: «الخيانة» من خلال القبول بالعدو ويجب التأكيد على هذه المسألة بكلمة التطبيع كمصطلح يهودي مثله مثل ( الشرق الأوسط) وغيره من المصطلحات.
وما الاعتراف السياسي الا بوابة هذا التطبيع ، وأما اتفاقيات النشاطات الاقتصادية والثقافية والاعلامية والسياحية ونحوها بين «إسرائيل» وغيرها من الدول المجاورة لها، فهي من وسائل تنفيذ مخطط ( التطبيع).
لقد قام الباحث الإسرائيلي ( ألوف هارايفن) بمؤسسة ( فان لير) في القدس ، بدراسة عن سبب انعدام الثقة بين اليهود والبلدان العربية ، وقرر في بحثه أن هناك أربع عقبات صعبة تعمل على ذلك، وذكر منها: الموقف الثقافي العقائدي للعرب والمسلمين تجاه اليهود، ثم وضع حلولا لهذه العقبات، وكان الحل للعقبة العقائدية: ضرورة وجود برامج مركبة في المجال التعليمي والثقافي تهدف إلى تفتيت الملامح السلبية للجانب الآخر، وأحد الأسس الحيوية لبرنامج كهذا هو الفحص والتغيير الشامل للبرامج التعليمية في كل ما هو متعلق بما يلقنه العرب والإسرائيليون في المدارس عن بعضهم البعض . وفي كتاب أعده تسعة من المتخصصين لدراسة آفاق التعاون الثقافي مع مصر بعنوان ( إذا جاء السلام- أخطار واحتمالات) جاء في مقدمته: ضرورة مراجعة البرامج التعليمية بشكل مباشر في الدول العربية، وحذف المواد التي تعمق روح العداء بين الكيان الصهيوني والعرب، وبعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد ووادي عربة واوسلو دخل التطبيع مصطلحا وسياسات مرحلة جديدة شديدة المرارة والاحباط نعيش اليوم في فلسطين والدول العربية بعض تجلياتها وللحديث بقية.
كاتب ومحلل سياسي مصري