تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


غراب من نوع مترف

إضاءات
الثلاثاء 27-1-2015
سعد القاسم

ذكر لي صديق درس النقد الأدبي في جامعة شرقية أن أحد أساتذته قال لهم يوماً:«إن العمل الجيد يحتاج النقد مثله مثل العمل الرديء،لكن العمل المتوسط لا يستحق ذلك إطلاقاً».ويبدو أن الذاكرة أيضاً تفعل الشيء ذاته فتحفظ بالجيد، وبالرديء، وتهمل ما هو وسط بينهما ..

ثمة أعمال أدبية لقيت شهرة تفوق المألوف فتجاوزت حيزها المحلي لتصبح جزءاً من التراث الإبداعي الإنساني، وتحمل بحق صفة العالمية، كما هو الحال مع رائعة فيكتور هوغو الخالدة «البؤساء». فهذه الرواية التي تحكي واقعاً اجتماعياً فرنسياً في مرحلة تاريخية مملوءة بالاضطرابات السياسية، ترجمت إلى معظم لغات العالم، وصنع منها عدد يكاد لا يحصى من الأفلام السينمائية، والمسلسلات التلفزيونية (ومنها مسلسلات تلفزيونية عربية)، والمسرحيات، وحتى مسلسلات الرسوم المتحركة المخصصة للأطفال. كما صنع منها مسرحيات غنائية قدمت لفترات طويلة جداً على خشبات مسارح مرموقة بمشاركة فنانين كبار..‏

قبل وقت قصير قررت فرقة مسرحية أوروبية عريقة الاحتقال بمرور خمس وعشرين سنة على تقديمها أول عرض لها لمسرحية «البؤساء»، فأعادت تقديم عرضها المسرحي الغنائي القديم بمغنين شباب، ورؤية مسرحية معاصرة، مستفيدة من التقنيات المسرحية الحديثة، ومنها شاشة عرض عملاقة نصبت في صدر خشبة المسرح لتعرض مشاهد من العرض القديم، واختتمت هذه الاحتفالية المسرحية التاريخية بدخول فريق الممثلين والمغنيين (الختايرة) في العرض القديم إلى خشبة المسرح، ليشاركوا الممثلين والمغنيين الجدد تقديم أغنية الختام الشهيرة المتلازمة مع كثيرمن عروض«البؤساء» السينمائية والمسرحية، في مشهد قد يكون أحد أجمل المشاهد التي شهدتها حشبات المسرح في العالم..‏

هذه الأغنية بالذات استثارت اهتمام القائمين على برنامج غنائي (مستنسخ) في محطة تلفزيونية عربية مترفة، فقاموا بـ(تعريبها) وفق الميول السياسية للمحطة, ثم ألزموا المتسابقين الهواة المشاركين في البرنامج بغنائها كأغنية ختام للحلقة الأخيرة من(الماراتون) الغنائي، فنجحوا بتحقيق سلسلة من المفارقات الكوميدية،أفرغت تلك الأغنية الرائعة من مضمونهاوحولتها إلى مسخ هجين معزول عن بيئته الفنية والاجتماعية والتاريخية. فالمغنون الهواة الشباب بدا أن لا أحد منهم على معرفة بمرجعية الأغنية، ولا بالرواية التي ارتبطت بها، وبالرسالة التي حملتها، وبسببها وصلت إلى كل المجتمعات الإنسانية. ونالت المكانة التي نالتها قي تاريخ المجتمع البشري. والمحطة ذاتها(بسبب مرجعيتها المالية والسياسية والاجتماعية) أبعد ما تكون عن الاهتمام بالبائسين في أي مكان كانوا، ولا عن التطلعات الحقيقية للشعوب، ولا عن الشعوب أصلاً. وقد عملت بتتخابث غبي، أو بغباء متخابث، على تحويل مقولة الأغنية بما يتناسب مع سياستها الإعلامية المزيفة للحقائق والوقائع والمفاهيم.‏

بالنسبة للعارفين بأصل الأغنية، وغايتها،بدا المشهد برمته كواحدة من اللوحات التي تقدمها البرامج الكوميدية كشكل من أشكال المزاح مع أعمال فنية خالدة في الذاكرة.والمأزق أنها قدمت هنا بمظهر جاد،وبدل أن تكون أداة للسخرية، تحولت هي إلى مادة للسخرية،بما يشبه الحكاية المتخيلة الشهيرة عن الغراب الذي حاول تقليد مشية الهدهد فلا هو أتقنها، ولا هو عرف كيف يعود لمشيته القديمة..‏

غير أن (غرابنا) لم يتعثر في مشيته (المستنسخة) فحسب، وإنما شوه مشية الهدهد أيضاً.‏

www.facebook.com/saad.alkassem

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية