عن حضور المؤثرات الوجودية في سلوك أبطالها الذين هم في حقيقة الأمر شخصيةٌ واحدة, وهم يواجهون مأساةَ شرطهم الإنساني والاجتماعي, ما يجعلُ قصص المجموعة تشترك في مناخاتها القاسية الضاغطة برعبٍ على وجدان و روح شخصياتها المنتهَكة. إِذ تتماثل في قصص المجموعة الإحدى عشرة, صُوَرُ المعاناةِ والضياع بأجوائها الكابوسيةِ المفزعة التي تُقدِّمُ رؤيةً واحدةً للعالم, وللذاتِ المهزومة في صراعها المأساوي معه.
حيث نجدُ أنَّ الشعور القاسي والمأساوي بالموت, يُمثِّلُ أهمَّ مظاهر التجربة الوجودية عند أبطال تامر, الذين يجعلهم الوعي المأساوي يشعرون بالعبث والرعب الذي يُلاحقهم,فيحاولون الفرار منه, ولكن إلى أين?.إلى فراغِ وجودهم المتعيَّن الذي يُفاقم من وطأة هذا الشعور, ويجعل هذا الوعي يصادرُ إحساسه بالزمن الآتي:( سأموتْ.خطوة واحدة إلى الأمام..سأموتْ, خطواتي تتراكضُ على الرصيف, تتراكضُ, ويحتويني فراغُ غرفتي.سأموتْ) من قصة صهيل الجواد الأبيض.
إنَّ استخدام القاص صيغة التكرار لكلمة(سأموت), وللفعل(تتراكض) في الكشف عن مدى إلحاح وحضور الوعي المأساوي بالشرط الوجودي الفادح عند بطل القصة, وبحالة التوتُّر والرعب الشديد التي يُولِّدها لديه- هو الذي يجعل الرؤية إلى الوجود تحمل معنى العبث و الضياع, إذ لا معنى يبقى لهذا الوجود مع وجود الموت الذي يلغي هذا الوجود.
ثمَّ يذهب مفيد نجم إلى قراءة دلالة العناوين التي يختارها زكريا تامر لمجموعاته القصصية فيرى أنَّ هناك نوعان من العنونة ميَّزا أعماله; النوع الأوَّل تمثله عناوين أعماله الأولى(صهيل الجواد الأبيض, ربيع في الرماد, النمور في اليوم العاشر) التي تتميَّز بالطول النسبي, وبالبنية اللغوية الشعرية المجازية, ويحمل اثنان من العناوين اسمي حيوان, في حين أن العنوان الثالث يحمل معنى التجدد في الحياة الطبيعية.
ومما يلفت النظر في عناوين أعمال الكاتب أنَّها جميعاً باستثناء عنوانٍ واحدٍ تتألَّفُ من جملةٍ اسمية أو كلمة واحدة, والعنوان الوحيد الذي حمل صيغة فعليةً هو عنوان مجموعته السابعة(سنضحك). وقد تميَّز أيضاً باقتصاره الكبير في اللغة, إذ تتألَّف من فعلٍ مضارع اتصل بحرف السين الذي يدل على ما يستقبل من الزمان, ويبدو واضحاً هنا الاشتغال الدلالي على صيغة العنوان من قبل الكاتب, وهو ما يمكن إدراكه بعد قراءة قصص المجموعة إذ إنَّ العنوان في بُنيته الدلالية ومعناه, يتناص مع مضمون التجربة التي يُحيل إليها.
أما عن بدايات السرد ونهاياته في قصص زكريا تامر; فيرى مفيد نجم أنَّ بداية قصصه غالباً ما تتضمَّن عنصر المفارقة والغرابة الناجم عن التأليف في بناء الجملة بين معنيين متناقضين, بحيث يؤدي ذلك إلى صدم القارئ وخلق شعورٍ بالغرابة والإثارة, يدفعه إلى متابعة القراءة. ثمَّ يعتبر أنَّ(المكان) في قصص زكريا تامر يتسم بأنَّه مكان معاد وغريب, وأنَّ علاقة الشخصيات معه علاقة قدرية يصعب الفكاك منها, أو التحرر من قيدها, ولذلك تغيب عن هذه العلاقة قيم الألفة والطمأنينة والشعور بالأمان, ليحلَّ محلها الشعور الطاغي بالغربة والضياع والخوف والعجز, الأمر الذي يجعل هذه العلاقة تتصف دوماً بالتوتُّر والقلق والاغتراب. كما أنَّ حركة الشخصيات في قصصه تتَّصفُ بأنَّها تنطلق من المكان الأدنى نحو المكان الأعلى, ومن المكان المغلق نحو المكان المفتوح(الشوارع و الأرصفة) ,أو الأماكن المغلقة العامة(المقاهي والحانات و دور السينما), في محاولة لخلق حالة من الألفة والمودة مع المكان أو لاختراقه, إلا أنها تعجز عن تحقيق ذلك, فنراها تعود إلى المكان الأوَّل الذي انطلقت منه وهو(القبو) الذي تعيش فيه, تعبيراً عن العجز والهزيمة, مما يجدِّد شعورها بالعزلة والغربة والانسحاق, ويجعل هذه العودة تحيلُ إلى العالم الداخلي للشخصية, عالم الأحلام والاستيهامات والخيال, إذ إنَّ الإنسان في داخل هذا النمط من المكان, يحاول أن يخلق -في الواقع, أو في الخيال- مكاناً أليفاً.
إنَّ أهمية المنجز الإبداعي القصصي لزكريا تامر يتجلى في قدرته على صياغة رؤيته وقيمه الإبداعية التي شكَّلت اختراقاً للمنجز القصصي العربي, والتي جعلته يغرّد لوحده خارج السرب. والغريب أنَّ التجربة التامرية, رغم الأهمية التي شكَّلتها, والتأثير الذي مارسته على الأجيال في القصة العربية, لم تحظ بالاهتمام النقدي المطلوب, إذ ظلَّت الدراساتُ النقدية التي تناولت تجربته محدودة, مما يطرح أكثر من سؤال حول الأسباب التي تقف وراء هذا الغياب النقدي.
anouarm@aloola.sy
صادر ">
anouarm@aloola.sy
صادر عن وزارة الثقافة 2006