وكلما سيطرت الرذيلة على الفضيلة وكلما زاد استغلال الأبرياء البسطاء والخلوقين من قبل المحتالين والمنافقين.. كل هذا حاصل الآن ومع ذلك لم تظهر أي إمارة على قرب ظهوره.
كذلك وعد المسيح أنه سيأتي, قال: قريبا جدا, يمكن أن أعود قريبا جدا, لكن ليس بعد ألفي عام فهذا زمن طويل جدا.
في الحقيقة, لم تعد فكرة التخلص من شقائنا, ألمنا, وأحزاننا مقبولة وليست فكرة الإله القريب ممن نناديه سوى حلم بعيد المنال, ومجرد نظرة إلى العالم تخبرنا أنه لا أحد يبالي بنا.
وأهم ما يقتل البشرية هو الفقر والحاجة إلى الغذاء, ولكن لو نظرنا إلى المقلب الآخر, فإن الفقر يشجعنا على الطموح والدعوة إلي التغيير.. إنه ينطوي على شيء واحد جميل: إنه لا يدمر آمالنا أبدا أنه لا يقاوم أحلامنا, بل يمدنا بالحماس من أجل أن نحسن ظروفنا ويبقى الفقير وأنا منهم, معتقدا أن الأمور ستتحسن وهذا الظلام سينجلي وسرعان ما يحل النور مكانه.
نحلم عندما يصبح معنا ثمن الخبز, نسعى ليصبح معنا ثمن اللحم والفاكهة وثمن أن نشتري ملابس جديدة.
في الحقيقة هذا كلام طوباي, أنا شخصيا لا أحب الفقر, هذا الثوب المهترىء على الجسد مرة, رأيت مشهدا ضرب قلبي كالسكين في قالب الزبدة, رأيت شابا يخترق الازدحام ليصل إلى باب الفرن واشترى رغيفا واحدا ثم انتبهت أن شابا آخر كان ينتظره ثم تقاسما الرغيف, مستندان إلى عمود الكهرباء, وكأنهما يأكلان فروجا مشويا, لا أبالغ إن الدمعة قد طفرت من عيني.
أذكر في طفولتي أنني شاهدت رجلا مشنوقا في ساحة المرجة وعندما سألت عن جريمته قالوا: قتل زوجته وبناته, ثم ذهب إلى المخفر وسلم نفسه, استغربت لماذا لم يقتل نفسه معهم, ولكن ضابطا في الأمن صديقا لوالدي, نقل لنا جزءا من التحقيق: لقد قتل أسرته وكلهن بنات خوفا من إملاق وجوع لأنه لم يكن يملك ثمن الخبز ولا ثمن فاتورة الكهرباء والماء, وأنه قتل أسرته احتجاجا على هذا الوضع ولم يقتل نفسه حتى يدين قبل كل شيء المجتمع الذي يعيش فيه, ثم ذهب إلى المشنقة وهو فرح وجذلان.
ثمة قصص متشابهة, ليس في بلادنا فقط بل في أكثر بلدان العالم الثالث والرابع والخامس.. فقراء يتغذون من القمامة, لقد رأيتهم في شوارع دمشق وبيروت والقاهرة.
في بيروت رأيت رجلا في الخمسين (ينبش) في القمامة للعثور على لقمة الخبز أو بقايا طعام وألقى شرطي البلدية القبض عليه بالجرم المشهود وانهال عليه ضربا ورفسا حتى أدماه, وعندما تدخلت لإنقاذ الرجل صرخ الشرطي في وجهي: ألم تره ماذا يفعل? إنه يخرج ما في حاويات القمامة كي يجد شيئا يأكله.. قلت للشرطي أنت تعمل لتأكل ومرتبك نصفه على الطعام.. أليس كذلك? هذا الرجل الكهل لو كان يملك مالا لوفر عليك كل هذا الصفع والضرب ولذهب إلى البائع واشترى سندويشة فلافل وأغناك عن الاعتداء عليه, وخجل الشرطي وعوض أن يصطحبه إلى المخفر تركه حرا.
هذا المشهد يتكرر في أكثر من مكان في هذا الوطن الجميل!
أذكر في لندن اصطحبني صديق إلى الكازينو, فرأيت رجلا من الخليج قد حمل كيسا كبيرا ممتلئا بالجنيهات الانكليزية وبينما أنا أراقبه سمعت صديقا يقول له: كفى خسارة اترك ما تبقى معك وعد إلى البيت, فقال له مؤنبا: ماذا.. أنا جئت إلى الكازينو لأخسر كل ما معي.. وليس من أجل أن أربح.
هذا يذكرني بأحد رجال المال عندما صرح في إحدى الصحف إن ثروة البترول ليس ثمنها فقط لأصحاب البلاد التي ظهر فيها, إنها ثروة للبشرية كلها, وعلى البشرية كلها أن تنعم بها, قامت الدنيا عليه ولم تقعد, أنا ربما وحدي من قال: الحق معه.. فمثلما نتمتع بالثروات المائية بين البلدان المتجاورة, علينا أن نتمتع معا بثروات الغاز والنفط والقصدير والذهب.. وما إلى ذلك, ولكن للأسف الذين يتنعمون بهذه الثروات رجال قلائل, إنهم الحكام وأبناؤهم وأسرهم, أحدهم وضع في حساب ابنه الرضيع خمسة ملايين دولار, وأخراشترى قصرا في لندن وقدمه هدية لهيفاء وهبي, كان ثمن القصر سبعة ملايين جنيه استرليني, وثمن الديكور كان مبلغا مماثلا, وأحدهم تزوج من فنانة وهي زوجته السادسة مقابل ثروة بلغت خمسة عشر مليونا من الدولارات وطلقها بعد أشهر.
من يراقب هؤلاء ويسألهم? من يدل هؤلاء على الشابين اللذين اكتفيا برغيف خبز كفاف يومهما.. ومن يدل هؤلاء على رجل القمامة الذي كان يبحث عن لقمة خبز في حاويات القمامة? لماذا هذا الفارق كبير إلى هذا الحد بين الأثرياء والفقراء في هذا العالم الحزين, الرديء, المفسد?
في البلدان المتطورة حصل الناس على كل شيء كانوا يحلمون به, فقدوا الحلم بالجنة, لأن الجنة أصبحت عندهم, ولم يعد بوسع مجتمع كلاسيكي أن يساعدهم بعد الآن, لن تكون هناك يوتوبيا أفضل, لقد حققوا هدفهم, هذا صحيح, فالمجتمع الغربي أصبح مصانا من الهزات, والفرد في ذلك المجتمع مؤمن في كل شيء: صحيا واجتماعيا وأمنيا, كل شيء أصبح متوفرا له, من البيت إلى العمل إلى الإجازات المرفهة والتأمين على الحياة حتى الموت.. لكن هنا, وفي بلدان العالم الثالث أصبح تحقيق ذلك من رابع المستحيلات وأي خطوة تقدم نحو ذلك يقابلها عشر خطوات إلى الوراء .
المجتمع الغربي الذي حقق كل هذه الإنجازات إنما هو مجتمع مصاب بالكآبة, وإن تلك المنجزات الهامة إنما هي سبب هذه الكآبة.. أي لم يعد لهم أي أمل وإن الغد لن يأتي ثانية حتى إن بعد غد سيكون أكثر ظلمة, لقد حلموا بأشياء جميلة جدا وحققوها ولم ينظروا قط إلى مضامينها, الآن, بعد أن نالوها أصبح الإنسان هناك مسكيناً يفتقد إلى الشهية, انسان غني يفتقد إلى الشهية.
وليؤكد أوشو مشجعا على الفقر: أن تكون فقيرا وتمتلك شهية أفضل من أن تكون غنيا بلا شهية, ماذا سيفعل رجل الغرب بكل ما يملك من ذهب وفضة ودولارات? لا يسعه أن يأكلها, يمتلك كل شيء.. ولكن شهيته اختفت.
ويقول تكرارا: لا شيء يخذل النجاح, لقد بلغ الغربي مكانا طالما أراد أن يصل إليه, لكنه لم يدرك الآثار الجانبية لهذا النجاح: لديه ملايين الدولارات لكنه لا يستطيع أن ينام.
يضرب أوشو مثلا: تعودت أن أقيم في ساجار في بيت رجل ثري, كان العجوز وسيما جدا, كان أكبر منتج bidi في الهند كلها, لديه كل ما يمكن أن تتخيله, لكنه كان عاجزا تماما عن الاستمتاع بأي شيء فالاستمتاع شيء بحاجة إلى التغذية, إنه فن محدد, نظام محدد, كيف تستمتع: أمر يحتاج إلى وقت كي تتواصل مع الأمور الأعظم في الحياة.
في المختصر: أهم أمر في الحياة هو أن تجد معنى للحظة الآنية, يجب أن يكون الحب أهم ما في الحياة , الفرح, الاحتفال بالمناسبات بأعياد الميلاد, بالطفولة, هذه هي نكهة وجودنا الأساسية, عندئذ يمكن أن نفعل أي شيء, لن يستطيع المال حينئذ أن يدمرنا, لكن المرء ببساطة ينحي كل شيء جانبا ويجري وراء المال لا ليستفيد منه هو ومن حوله بل ليبدده مثلا في القمار والنساء وسباق الخيل والسيارات, يمكن أن نشتري بالمال كل شيء, لكن لن نستطيع أبدا أن نشتري راحة البال.
هذا هو سبب الكآبة في الغرب, وتزداد الكآبة عمقا, كان في الشرق وما زال أغنياء, لكن كان للغنى أيضا بعد معين أخلاقي في معظم الأحيان, عندما وصل الغنى إلى نهاية الطريق, لم يقفوا عند ذلك الحد: انطلقوا في اتجاه جديد طالما كان متوفرا منذ عصور عديدة- هل نأخذ (الزكاة) في الإسلام مثلا أعلى? وكان فقراء الشرق في حالة جيدة, وأغنياؤه في حالة أفضل منهم بكثير, تعلم الفقراء القناعة بحيث لم يلهثوا كثيرا وراء الطموحات وفهم الأغنياء أنهم ذات يوم سيتخلون عن جاههم هذا كله, وينطلقون بحثا عن الحقيقة, عن المعنى.
هل هذه مثالية
لتكن
ثلاثة أشياء تذل المرء على الدوام: الفقر والمرض والحب.
ولكن.. كيف يمكن أن نحول الفقر إلى شيء إيجابي: إنه التغيير والاندفاع نحو تحسين سبل الحياة.
لا يغسل قلبي فرح
تدور بي الأشواق
كما تدور حسرة بين جذوة النفس
وابتهال القلب
تظلين ذلك الحلم الضائع
مغمساً بالسهد والوهم والخيال
هكذا تضنيني الأشواق إليك صباح مساء
ياجوهرة المدن الناعسة وراء المتوسط
أيتها الأحلى بين الجميلات
انتظرك في الحلم والسهاد
انتظرك نشيد غربة وترحال
وأنا الآن
في هدأة الليل الطويل
لا يغسل قلبي فرح ولا انتشي بأغنية
ولا ألوذ بوردة
لأن سيدة الفساتين الجميلة
هناك في دمشق
في عز الشرق
وأنا على ضفاف التايمس
تأكلني الغربة كالجراد
يابعيدة
يا قريبة قرب الحاجب من العين
يهتدي بي الحلم من سراب إلى سراب
ليس على جراحي غير ملح البحار
أنا الهولندي الطائر
أحزاني أشكال من كواكب أخرى
أمضي بأساي واختنق
فأين يدك تنتشلني من تحت الماء.
أين شفتاك العذبتان
أين صوتك يغني
ها أنا عاشقك الوحيد
يبحث عن ظل لك بين الظلال
عن وردة سقطت من يدك
عن زر فستان انزاح عن صدرك
كي يترك الحمام يطير
وراء تلك البحار والجبال
تترنم بك المدن الجميلة والشواطىء الباهرة الجمال
وابتهل إلى الرب أن يجمعنا
فهل يستجيب الرب للنداء
تراك حقيقة أم سراباً
تراك خيالا من أشجار الياسمين
اعطني فرحا
كي تفتر أشواقنا على آمالنا
فلا يزيلنا من الوجود
النسيان