ولتمنح لحظة صدق واحدة تجمع أبدية اللامتناهي.. لحظة واحدة.
التحدي..
قد يكون العنوان الأبرز الذي راوغ الروائية والشاعرة النيكاراغوية جيوكندا بيللي للاتيان بنص رواية (اللامتناهي في راحة اليد) نص يتشابه ويتمايز بالآن ذاته مع نصوص تسرد حكاية الخلق الموصوفة في الكتب المقدسة القديمة.. ومنها سفر التكوين.
تعود الروائية إلى أزمنة لا ترقى إليها الذاكرة.. اللافت أنها تشبع بإيماءات (اللحظة المعاشة الحالية) بيللي تسبغ أفكارها والكثير من آرائها تجعلها على لسان بطليها -آدم وحواء- ولاسيما المرأة.
هي تقوم بنسج وتطريز حكايتها، تمزج ما بين المدرك والراسخ مسبقاً في الذاكرة الجمعية مع تحليلاتها وتفنيداتها لكثير من الأحداث التي جرت لآدم وحواء كما وردت في المخطوطات القديمة.
وفي كل ذلك تتحرر من سلطة (المقدس).. لا تنشغل بالبعد الديني أو التفسير الماورائي.
همها ومجال لعبها هو الربط ما بين لحظة الخلق تلك ولحظة الحياة هذه.
محاكاة القصة التوراتية عن نشوء الخليقة أساس لا تحيد عنه الروائية.
تسرد قصة آدم وحواء منذ لحظة تناولهما لثمرة شجرة المعرفة وخروجهما من فردوسهما، تصور الكيفية التي بدأا بها اكتشاف العالم (الأرضي) المحيط بهما.. الدهشة التي رافقتهما والمعرفة التي استنبطاها بحس تقوده الغريزة وحدها- الفطرة الآدمية.
حواريات الرواية تغذيها بيللي بتخمينات.. بمحاججات لما يفترض أن تساق وتفضي إليه الأحداث المترتبة عن فعل (أكل ثمرة التين) مسببة فعل الطرد من الفردوس والسقوط في أحضان الأرض المجهولة من قبل الرجل والمرأة.
تعترف جيوكوندا أن هذه القصة ليست سوى قصة كل واحد منا.. هي نفسها قد لاتكون إلا انعكاساً لحواء.. صوتها يتوحد مع صوت حواء.. التفكير ذاته يطبع الانثيين في قولها مثلاً..
(إذا كانت الأسئلة تخطر لي فلابد أن يكون لها أجوبة وعلينا أن نعرفها).
التماهي ما بين الصوتين.. أو الاسقاطات التي تقوم بها الكاتبة هي لعبة تلازم القارئ من بداية الحكاية حتى نهايتها.. يعمل فكره ليحزر أي الصوتين هو الطاغي.. أيهما الأعلى.. أين تبدو حواء الأولى، وأين يبدو صوت وريثتها الحالية.
لعبة روائية تربط المتلقي وتجذبه إلى النص.. تقنية فنية لا مباشرة تأتي مقترنة مع أخرى تهوى ربط ما كان مع ما هو كائن لنلمح صوت تفكير الحاضر بعمق الماضي، بتعبير آخر: صوت الماضي يتردد صداه بآليات التفكير الحالي- تفكيرنا تفكير الروائية.
اعتماداً على ذلك.. نرى الكاتبة ترسم صفات المرأة التي ترغب أن تكونها (حواء) والتي ترغب بالوقت نفسه أن تكونها مطلق امرأة.. امرأة الانصياع ليس من طبيعتها وأفضل ما فيها هو عدم قدرتها على البقاء هادئة.. امرأة حيوية.. وعليها هي أن تكشف ما يخبئه المحظور.. حواء التي لا تتعب أبداً من الأسئلة.. والأسئلة هي مفتاح لغز المعرفة.
على هذه الشاكلة يرسم قلم بيللي (حواءه).. التساؤل هنا:
هل هي مجرد محاولات لمقاربة ما كانت عليه صورة (حواء) الأولى.. أم هي محاولة للمقاربة ما بين (حواء) الأمس و(حواء) اليوم؟
في الحالين.. تأتي هيئتها ايجابية.. تحمل سر السؤال الذي يفجر كل معرفة وكل حرية.
النص لا يخلو من محاولات إضفاء قراءات آدمية مشبعة بمنظور انسان (الآن) لقصة خلقه السحرية الفاتنة.. تأويلات تجتهد بها بيللي مظهرة مقدرة يقل نظيرها في هذا المضمار حيث مجاراة ما علق في ذهنها مما قرأت في الكتب المقدسة الكبرى.
تختلق عوالم، تبني فضاءات قائمة بحالها، تسرد وتضيف سرداً على سرد تدعمه بقدرة ظاهرة على الوصف، فالرواية تتشبع بوصفيات يخيل لنا من جرائها وكأنما العمل برمته ليس إلا لوحات وصفية لهيئة عالم النشأة، تلون الروائية تلك العوالم بريشة تقنيات القص السلسة الواضحة في مضيّها.
بساطة الأسلوب لم تمنع من إكساء البناء الروائي طبقة فلسفية، هناك بعد فلسفي ظاهر يمكن للمتلقي استقراؤه في ثنايا حورايات حواء مع الأفعى أو تساؤلاتها مع ذاتها، من ذلك..
(لو كانت النتائج محتمة ولا يمكن اصلاحها لما خلقنا).. وقولها (سيعرفون أن الفردوس الوحيد هو حيث تكون الحياة الحقيقية، حيث يمتلكون الحرية والمعرفة).
الكتاب: اللامتناهي في راحة اليد - المؤلفة: جيوكوندا بيللي - المترجم: صالح علماني - الناشر: دار المدى