إذا ما تراخيتُ وتكاسلتُ،
وتعاطيتُ مع الدهر
على مهلي.. وعملتُ
كشاشاً للذباب فقط
مثل هذا، النص للشاعر السوري محمد عُضيمة - من مجموعته يد مليئة بالأصابع - الذي أقل ما يُمكن أن يُقال عنه، أنه يجعلك تبتسم وأنت تصل إلى خواتيمه، مثل هذا النص، صار اليوم من الندرة بمكان، ربما ثمة استثناءات نادرة عند شعراء مثل الشاعرين السوريين صقر عليشي، ومحمد عيسى، وبالمجمل فإن عدد «الشعراء الباسمين» لايتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة في كل المشهد الشعري السوري.!
فإن تمسك مجموعة شعرية، أو قصصية، وحتى رواية، وتقرأ وأنت تبتسم، يبدو أن ذلك قد صار من المُحال، فثمة بكائية، تسود اليوم كل هذا الحراك الثقافي، ليس في سورية وحسب، بل كل مناحي الإبداع في العالم العربي، ذلك أن هذه «السوداوية» ستنزاحُ، أو ستمدُّ خيوطها الكربلائية صوب العمل التشكيلي، والفيلم السينمائي، وصولاً للمسرح والدراما، وكأن ثمة طقس من «الولولة» يمُارسه المثقفون العرب كلٌّ حسب ارتكابه الإبداعي.
في هذا الطقس من التراجيديا، يصير النص الإبداعي الفرح، - إن كان نصاً مكتوباً، أم بصرياً - هو من حالات الاستثناء النادرة والمُفتقدة،.. إذ يكاد يذهب الجميع باتجاه صوب التجهم بكامل الوجوه العابسة، وهذا ما تنضح به «النصوص» وإن تنوعت مشاربها.
ما زلتُ أتلفتُ كلما رأيتُ صبيةً
لا لشيء.. فقط.. لأمرّن رقبتي
خوفاً من التّشنّج..
هذا بعض، ما يصر أن يبثه شاعرٌ مثل محمد عيسى في كل إصداراته الشعرية، والنص السابق من مجموعته «رتوش ما بعد العاصفة»، وفي تحليل الظاهرة، تعددت الأسباب، والنواح الطويل واحد، وكأن الشعراء في مواسم جنائزية مستمرة، فهل حقاً، لأن الواقع العربي، أو في العالم العربي الذي يزدحم بالفاجعة التي هي الباعث لكل هذا الحزن والخيبة والتهجم الذي يلف الإبداع، وهل يُفترض بالإبداع أن يكون مُعادلاً كارثياً للفاجعة الواقعية، أليس من شحنة، أو كثافة على المُبدع على نتاجه الإبداعي أن يُقدمه، مثل: «المتعة الجمالية» على سبيل المثال، التي هي أهم غايات الإبداع إنّ تنوّع وتعدد، واختلفت أشكاله، أليس الحب، الذي يتغنى به الشعراء - على ما يروي ثورنتون وايلدر- في أن يكون المرء محبوباً - في خضم نفايات الحياة - المركز الثابت لاهتمام أحد آخر.
لأجلك سأعشقُ كلّ النساء
ولو تمنعت واحدة ما،
سأركض إلى والدي باكياً
وأشكوها له.. لتنال جزاءها
وهذا النص للشاعر صقر عليشي من كتابه «الأعمال الشعرية»، والحقيقة كنت بحثتُ طويلاً في المجموعات الشعرية الكثيرة التي لا تملّ الصدور، عن «بسمة» تنضح من مجموعة هنا، أو مجموعة هناك، غير أنه في كلّ مرّة يكون العنوان وحده كافٍ ليجعلك تزرف الدموع بسخاء.
يذهب الإنسان إلى المسرح - على ما يرى بيتر بروك - لكي يجد الحياة، لكن إن لم يكن هناك اختلاف بين الحياة خارج المسرح، والحياة داخله، فإنّ المسرح ليس له معنى. ولا داعي للذهاب إليه. لكن إذا وافقنا على أن الحياة داخل المسرح تكون أكثر وضوحاً، وأكثر بهاءً منها خارج المسرح، عندها يُمكننا أن نرى أنها في وقت واحد متشابهة، ومختلفة نوعاً ما، الاختلاف هنا في هذه «المتعة» التي يُقدمها العمل الإبداعي سواء كان مسرحاً أو غيره، وهي متعة متنوعة، تبدأ من الجمالية، وحتى صنع الابتسامة، أما أن تزيد في المرارة، فلا أظن إنّ ذلك غاية الأعمال الإبداعية.
ثمة أمر آخر، يجده الشاعر محمد عُضيمة في أسباب هذه الفاجعة في النتاج الإبداعي العربي، تشخيص عُضيمة في تفسير هذه الكآبة، يراه في اللهاث وراء شعرية اللامرئي، أو الميتافيزيقي، التي توحي أنها تفتح آفاقاً لا حدود لها للقارئ العربي، والشاعر بفعل الحشو الزائد، وتحويل القصيدة إلى بحث في الجغرافيا، التاريخ، الفلسفة، والأساطير، لكنها وبهذا تحديداً تقوده في اتجاهٍ واحد: الكآبة، القنوط، لذلك سوف لن تجدوا ابتسامة على ملامح أي شاعر من شعرائنا المعاصرين، بل ستجدون جديةً عابسة..!
يبدو الأمر، وكأنه محترف واحد للحزن، يمتحُ منه الشعراء، وذلك بعد أن أُقنعوا تماماً إن الفرح «ليس مهنتهم»، كما جاء على لسان سيد الحزانى محمد الماغوط.
اخترت محمد عُضيمة وصقر عليشي ومحمد عيسى، لأنهم من القلة التي نجت من فخ «البكائية» التي تسفح دموعها مدرارة على بياض القصيدة، رغم الاختلاف البيّن بين التجارب الشعرية الثلاثة، لكنها تتقاطع بابتعادها عن الادعاء بأنها تخوض في القضايا الكبرى، وبالتخفف من الأدلجة، والذهاب بالقصيدة إلى الحقول والزواريب والسوق، والاحتفاء بالمعاش الحاضر، ومن ثم الاقتراب من الطرفة، والتهكم غير الجارح، والبحث عن المفارقة الصادمة إبداعياً لشدة دهشتها، كلُّ ذلك تمّ لهم بهذه الصياغة بالمحسوس، وتلمس القصيدة بالأصابع.
وفي الختام
تماسكنّا بالأيدي، وتشابكت الأصابع
على نيّة العراك
وبعد حين من دفء الشفاه
عدلنا عن رأينا
فأمسينا نتلاسن
وبقينا كذلك حتى صياح الديك
alraee67@gmail.com