|
المنقادون لأوامر رايس ومشتقاتها وأخواتها شؤون سياسية بهذا المعنى صار اللبنانيون يخافون الطاولات المتدفقة بعدما كانت الطاولات الحوارية تريحهم والسبب أنها قد تكون إشارات تستبق الدم النافر في الشرايين قبل انبثاقه بحثاً عن طاولات كانت تخرج من الدماء والحروب لوقفها! ليس أبلغ من طاولات الحوار المستطيلة التي وضعتها فرنسا كوشنير في سيل سان كلو في ضواحي باريس مؤخراً,وأعقبها صورة للمتجاورين لا المتحاورين في قصر الصنوبر في بيروت والتي أعقبها زيارة وداعية للسفير الفرنسي برنار إيميه الى قصر بعبدا في اشارة الى رسوخ النبرة والخط العربي /السوري المقتدر والشجاع الذي انتهجه وثبت عليه الرئيس اميل لحود. وليس أحلى من صورة الطاولة في ذهن الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى الذي أجهد نفسه كثيراً لخرق هذا الجدار السميك في لبنان,بل ليس أبهى من طاولة مستديرة صفها رئيس مجلس النواب نبيه بري في قلب مدينة رفيق الحريري, والكل يتطلع اليوم الى عين التينة لتكرار التجربة حول طاولة متحيرة بين الجبنة والهمبرغر أو بين الجوز والتمر والزبيب أو العنب والبرازق! وكي لا يختنق المتحاورون في ما يلتهمون,لابد من كوب من اللبن السوري الطازج المخفف بشيء من الماء البارد للسياسيين الذين ما عادوا قادرين على تهدئة تصاعد الأدرينالين في دمائهم الى علو في الضغط قد يفجر شرايين أهل السلطة المحكومين أو المنقادين لأوامر رايس ومشتقاتها وأخواتها. لبنان تلك الدولة المستحيلة بين الحوار والجوار تبحث,من دون جدوى إذاً عن طاولة الوحدة الحقيقية. أهم ما في لبنان,مستقبل الطاولةل 15 متحاوراً لبنانياً و60 مستشاراً أو ما ستؤول إليه دماً أم تمديداً لسلام نعم اللبنانيون برخائه ربع قرن تقريباً! هكذا يرتفع منسوب القلق بعد التعرف الى كمية الأخبار والأفكار لما جرى ويجري وراء فكرة الطاولة المنتظرة وخلفها من مخاوف وهواجس وامال. إنها تجعلنا نحلم بطاول ثمينة جلس وراءها نابليون بونابرت في الحي اللاتيني, يتفرج عليها السائحون,بعدما يدفعون ثمن رؤيتها ويرتفع السعر غالياً إن حلا لهم القعود فوق الكرسي التي اعتلاها نابليون من هم أين هم نابليونيو لبنان الغارقون في آذار أي في ربيع يتفتت بين الثامن والرابع عشر والاحدى عشر? وما هو مستقبل تجدد مسلسل الحوار اللبناني الطويل? أهو حوار فوق الدم أم حوار حقنا لتجدد الدم ولتقطيع الوقت الاقليمي والدولي? والفرق بين الحوارين أن الحوارات,خلال السنوات العشرين المنصرمة,كانت بدأت بهيئة الحوار الوطني في قصر بعبدا 24/9/1975 ثم حوارات لجنة المبادرة النيابية 19/12/1975 ثم عملية الوفاق الوطني التي أطلقها الرئيس الياس سركيس 16/2/1980 ثم هيئة الانقاذ الوطني للحوار 21/7/.1982 في أعقاب الاجتياح الاسرائىلي لبيروت ثم هيئة الحوار في بكفيا 1/24/11/1984 ثم الاتفاق الثلاثي 28/12/1985 ثم حواريات سباق الخيل 13/10/1986 ثم اتفاق الطائف 30/9-22/10/.1989 هذه الحوارات كلها كانت تأتي في أعقاب دماء وحروب وخراب وتحمل وعوداً بتهدئة أو وقف نار وضمد جراح,بينما الطاولة المحكومة بالفشل منذ عامين تضاعف الخوف والقلق من تجدد الفتن في لبنان,فتفقد الطاولة المستديرة معانيها المباشرة. هناك حوار تطلع منه أرواح اللبنانيين في حال فشله وهناك حوار يعقب الدم فتهدأ أرواح اللبنانيين في أجسادهم,ويروحون يبحثون عن رغيفهم تشابه استدارته استدارة الطاولات أو يحلمون باستدارة حبل مشنقة يريحهم من سياسيين يخربطون دورات دمائهم! بين الحلم والبحث تبدو السلطة السياسية في لبنان ولداً سياسياً نزفاً من بعيد لا يقوى على قيادة كيانه. إن كنت فوق تلة محفوفة بالزيتون وسألت عن لبنان في هذا المناخ المزروع بالحوارات والطاولات والمبادرات وأخبار الفتن المتنقلة التي لا تنتهي والمحفوفة بالكيدية والمخاطر والموت المتجدد واستيراد الأفكار والمضامين والأشكال لأجابوك على الفور بمجموعات من الكلمات والجمل الجميلة المنقوعة بالاستعارات والتحليلات والمعلومات المفبركة التي تفرش الوطن للأولاد والأحفاد بالموت والجهالة. يصادرون المواطنين في النهار كما في الليل ويزرعون حياتهم بالشظايا والجراح التي لا يمكن أن تنتهي. وهنا تكمن لربما القنبلة التي يترقبها الخارج ولا تدرك السلطة اللبنانية في أي هوة ترمي فيها لبنان! يمكن اختصار تاريخ العلاقات السورية اللبنانية بثلاث كلمات سطرها مجمل سياسيي لبنان أفضل تسطير: الاستقواء والاستعداء والاستجداء,لكنهم نسوا مسألة أو كلمة ثالثة هي الانتماء,فلم تأت العلاقات مميزة ولا مستمرة ولا ثابتة لأن عدم التمايز جاء فاقعاً ومفاجئاً. وأغلب الظن أن العلاقات بين السلطة اللبنانية اليوم وأميركا والغرب تقع في هذه الدوائر الثلاث للانقضاض لا على أخصام الداخل وحسب بل على سورية وايران وكل الدول التي للغرب مصالح جمة في استعدائها وهنا القصور اللبناني والطامة الكبرى في عدم حسن قراءة الأحداث الكبرى. لقد وقع لبنان في الفخ الأكبر! وبات واضحاً أن بعض لبنان صعد مجدداً الى أرجوحته التاريخية ليميل ذات الجنوب أعني العدو الإسرائىلي وذات الشمال أعني الجار الحبيب السوري. فينقسم بين الصديق والعدو,ولا يميز بين واقع وآخر ولا يقرأ في ضرورات الجغرافيا والتاريخ والدم وحتى المصالح التي تربط لبنان بسورية بوشائج يستحيل فكاكها بالشتائم وفش الخلق,وهنا المعضلة التاريخية الكبرى. فالأمن والانفتاح على الخارج لا يمكن أن ينفصلا على الأقل بين لبنان وسورية عاد بعض لبنان السياسي يسلخ جلده مجدداً للانفلاق بين شرق وغرب أو بين عرب وإسرائىل أو بين لسان يدور من اليمين الى اليسار أو من اليسار الى اليمين وفي التقدير أن هاتين الكلمتين لا تقبلان الحوار. كيف تجمع بين متناقضين متوازيين ومحورين متصارعين في اصطفاف واصطفاف مضاد يشمل دول الأرض? وقد ذهب بعض زعمائنا الى تخوم التطرف الذي لا يوصف بالعدائية لسورية وقلب نظامها وهو ما لا يقوى عليه لا من يدعيه في لبنان أصحاب المناقير الناعمة في عصر البواشق ولا الدول المدعية الأخرى المتخمة في زمن الحروب بالصواريخ البعيدة المدى والمتوفرة بدفق وحذق وتجارب مشهود لها. تلك مفارقات ما كنا نتصورها قائمة في الحقد اللاواعي لبعض سياسيي لبنان الى هذا المستوى,وصارت مفاتيح الدخول الى عقولهم الحوارية مرمية في قعر المحيطات! كيف يقوم الجوار من دون حوار? وكيف يقوى بلد ويستقيم في عداواته لجوار? بات لبنان بلداً فضائىاً حريرياً في رؤية بعض سياسيينا لا جواراً عربياً له,نعم تلك هي مسالك الدول المستحيلة. إننا الدولة المستحيلة المحيرة بين الحوار والجوار والمرغوبة من كل جوار,ولا حوار من دون جوار,لكن ليس أي جوار بالطبع. هناك فرق بين سورية وإسرائىل (يا للأسف أن نصل الى كتابة هذا باللغة العربية). ولا يمكن أن ينعم لبنان بالاستقرار,ما دامت الأصوات في لغوها السياسي تعتبر سورية تهمة ونقصاً وشتيمة من فريق نحو فريق آخر في لبنان,سواء في التصريحات اليومية أو في العدة الخطابية الانتخابية. كل هذا الدوران حول سورية والمقاومة وسلاح حزب الله,لا يفضي سوى الى مزيد من الضياع والانقسام والتشظي في بلد يقف أهلوه مجدداً على خط التماس بين الشرق والغرب. والمقاومة لبنانية متجذرة في جنوب مهمل منذ أن كان لبنان,وما قوي عليها أعتى عدو في تاريخ الصراع العربي الإسرائىلي,ومن ورائه بالطبع الولايات المتحدة الأميركية بكل قوتها وتصميمها. لم تبارح صورة الطاولة المستديرة الملطخة اللبنانيين منذ أن حلت علينا رايس بسرعة البرق تستعجل البروق,ومنذ أن كان خشب الطاولة مصقولاً فوق شفاه السلطة المتعثرة والمخطئة في حرب تموز الإسرائيلية على لبنان. وقبل أن تصبح واقعاً أو تحفة جميلة قد يشاهدها اللبنانيون في وسائل الاعلام وهي تتأهب لتأخذ طريقها نحو طاولة المجد أو العهد المنقرض! فالداخل مهما ضعف يبقى أقوى من الخارج مهما قوي,والداخل جدار مشقق قابل للملاط السياسي والاجتماعي دوماً,بينما الخارج قابل للتفكك السياسي والاجتماعي لا قيمة للكتابة والبحث في التجربة ونبش التاريخ عندما تصير السياسة والكتابة تجارة رابحة! أليس النص الجميل أفضل من نائب صامت أو كاذب أو ملتبس في برلمان,أو سائح أو مقتول,أو أفضل من مجموعات من الوزراء الموظفين الذين تحولوا منازل للكلام المستورد المودع فوق الألسن والشفاه. نعم النص ولو جاء دائرياً هو أثمن من نائب متشظ مزدوج مرتش منقلب على ثوابته وأولاده وحلفائه لايقرأ إلا في كتاب ميكافيللي. فما العمل في بلد مثل لبنان لسانه مدفوع ثمنه عداً ونقداً ومقعداً في برلمان وسيارة فارهة بنمرة زرقاء وحاشية وأموال وسفر وحقائب منتفخة بالمؤامرات المتجددة وامتلاك الفضاء من أجل ارتجالية يحسنها كثير من السياسيين. لا بد من تغيير داخلي في المشهد السياسي من جذوره ينبع من داخل! وإلا فإننا أمام اسطورة سيزيف متجددة في لعبة النار وذاهبون أكثر نحو الاستحالة! * أستاذ جامعي لبناني -مدير سابق لكلية الإعلام والتوثيق عضو الأمانة العامة لمنبر الوحدة الوطنية drnassom@hotmail.com nassim.khoury@gmail.com
|