إن نظرية فيزياء الكوانتم قسّمت الذرة إلى عدد من الجسيمات الأساسية دون الذرة.
ورغم أن الفيزيائي كشف عن أن الذرة ليست شيئاً صلباً لا يتجزأ، غير أنه لم يكن قادراً على أن يجد جسيماً يمتلك بالفعل تلك الخصائص. إن الحديث عن الجسيمات هو أمر مثير للالتباس، لأن الكلمة تقترح شيئاً مادياً. لم يكن هذا هو المقصود في استعمال الكلمة في فيزياء الكوانتم. جسيمات الكوانتم هي بدلاً من ذلك، تجسيدات لأفعال وردود أفعال للقوى في مستوى دون الذرة. في الحقيقة، الفيزيائيون هم أقل اهتماماً في البحث عن جسيم مادي يشكل الأساس في كل الأشياء المادية، هم أكثر اهتماماً في توضيح كيفية عمل الطبيعة. نظرية الكوانتم هي الوسائل التي تمكّن الفيزيائي من التعبير عن تلك التوضيحات بطريقة علمية.
يرتكز العلم الحديث على دليل مادي تجريبي، ولكن إذا كانت المادة هي غير مادية مثلما تشير القوى الأساسية الفيزيائية physicists fundamental forces(1)، فإن ذلك العلم سوف لن يكون قادراً على تفسير ماهية المادة. إنه يستطيع فقط توضيح كيفية عمل الطبيعة من خلال ملاحظة التأثيرات على الأشياء المادية.
في كتابه (In search of schrodinger’s Cat)، يقترح غريبين (Gribbin) إمكانية أن لا وجود حقيقي للجسيم حتى تتم ملاحظته. إن فعل الملاحظة يحطم وظيفة الموجة لكي يصبح أحد النيوترونات (من بين العديد) جسيماً حقيقياً. هذه الفكرة مشابهة للمثالية وجدالها في الظهور والواقع appearance and reality. (غريبين) لا يذهب بعيداً في النقاش، لذا سننظر في الحجة الفلسفية بدلاً من الحجة الفيزيائية. الماديون يدّعون أن كل شيء هو إما شيء فيزيقي أو مظهر لشيء فيزيقي، ولا وجود لشيء فيزيقي معتمد على الذهن. الشيء الفيزيقي ليس بالضرورة شيئاً صلباً، وإنما هو شيء ما يملأ حيزاً بثلاثة أبعاد. حجم من الماء أو غيمة من الغاز هي شيء فيزيقي مثلما هي الصخرة الصلبة. انتقادات النظرية المادية تتركز حول الجدال بأن معرفتنا بالعالم هي فقط تصوّر في الذهن. لهذا، العالم هو معتمد على الذهن لأن هذه هي الطريقة الوحيدة التي نستطيع بها تصور أي شيء.
الجواب المادي لذلك النقد هو إذا كنا نتصور شيئاً ما في الذهن، فيجب أن يكون هناك شيء في الخارج يتم تصوره. يجادل راسل حول هذه النقطة في (مشاكل الفلسفة فصل 2، 3) .
هذه الحجة تبدو اكثر إقناعاً عندما يُنظر إليها مقابل الأشياء التي تنتقل من جيل إلى آخر. عندما أنظر إلى لوحة بيسارو Pissaro (Dulwich college 1871)، فأنا أتصور نفس الشيء الذي رسمه بيسارو وتصوره. ربما أيضاً أزور كلية دولش وأتصور البناية ذاتها. بمقارنة رؤيتي مع لوحة بيسارو أنا أستطيع رؤية تشابه يكفي للافتراض أننا نتصور نفس الشيء العام المحايد. مفاهيمياً، هذه الأشياء يجب أن توجد مستقلة عن الذهن الذي يتصورها.
من وجهة نظر الفيزيائي، المادة مهما كانت فهي توجد من وجهة نظر موضوعية محايدة، وهي مستقلة عن أي فرد واع. وباللغة المادية، المادة ستكون شيئاً عاماً محايداً. غير أنه تبقى إمكانية الجدال حول ما إذا كانت مختلف أشكال الأشياء التي نتصورها يمكن اعتبارها كأشكال مختلفة للمادة. من الممكن أن تكون المادة شيئاً محايداً عاماً نهائياً يضم ويؤطر الأشياء العامة المحايدة التي نتصورها كأشياء في العالم. المادية تسمح للمادة باستقلالها عن الذهن، لكنها لاتزال بعيدة عن توضيح ماهية المادة.
تصورات في الذهن
قبل أن ننتقل إلى نظريات ميتافيزيقية أخرى، لننظر في إحدى الهجمات على فكرة المادة لنرى أن كانت الأشياء تصبح اكثر وضوحاً. (كليمبر) يعرض مثل هذا الهجوم في (الميتافيزيقا وحدة 2). تجربتنا عن العالم هي فقط تصوّر في الذهن. نحن لا نستطيع تجربة الواقع النهائي مباشرة، وإنما فقط كتصورات في الذهن. المحصلة من هذه العقيدة هي أن تجربتي للناس الآخرين هي أيضاً فقط تصورات في ذهني. لكي أتجنب الوقوع في الأنوية (الإيمان بالذات فقط)، أستطيع الاعتراف بان الآخرين لهم تصوراتهم الخاصة بهم عن العالم تماماً مثلما لدي. كلانا لديه تصوراته لنفس الواقع النهائي. ولكن ، بسبب أننا لا نستطيع أبداً معرفة الواقع النهائي مباشرة، فنحن لا نستطيع معرفة ما إذا كانت تصوراتنا حقيقية أم زائفة. كل ما نستطيع القيام به، من خلال الحكم على كل الرؤى الأخرى، هو الاتفاق على تصور للعالم الموضوعي. ذلك لا يعني أن الأشياء الفيزيقية في ذلك العالم الموضوعي لها أية حقيقة في ذاتها. الواقع النهائي يسمح لنا فقط ببناء نظرية لعالم الأشياء الفيزيقية. المادة، إذاً، هي ليست أكثر من بناءات لتلك النظرية. يتبع ذلك، أن أذهاننا مسؤولة عن بناء العالم الفيزيقي. إذا كان ذلك حقيقة، فإن الفيزيائي ربما يسأل من المسؤول عما يبدو من استقلالية للأشياء في العالم الفيزيقي؟ للإجابة على هذا السؤال سوف نلتفت إلى اللاماديين، ومنهم (باركلي) الذي يعرض نظرية مثالية كلاسيكية عن مبادئ الفهم الإنساني.
نظرية باركلي ترتكز على فكرة أن كل شيء نعرفه حول العالم هو يُعرف فقط كتصورات في الذهن. وفي النتيجة، كل شيء موجود هو فقط كفكرة في الذهن ولا وجود لشيء مادي خارج الذهن. هو يميز بين أفكار التصورات التي هي نتاج لرغباتنا، والتي تكون مؤقتة وغير منسجمة، وأفكار الحواس Ideas of sense (2) التي ليست عرضة لرغباتنا والتي تبقى مستمرة ومنسجمة. أفكار الحواس هي التي تسمى عادة بالأشياء أو الأشياء الحقيقية التي نتصورها في العالم الموضوعي.
يرى باركلي بما أن أفكار الحواس ليست عرضة لرغباتنا، فهي يجب أن تكون عرضة لبعض الرغبات الأخرى. وفي النهاية كل ما يوجد هو ذواتنا كروح أو أفكار الله.
الفيزيائي قد يقبل بأن المادة ليست شيء فيزيقي، لكنه لايزال يصر أنها شيء ما مستقل عن الذهن. بيركلي يجادل ضد عالم الذهن المستقل بثلاثة خطوط من التفكير (الجزء الأول، قسم، 19، 20).
1- إذا كانت هناك أجسام مستقلة عن الذهن فنحن سوف لا يمكننا أبداً معرفتها لأننا نستطيع فقط معرفة تصوراتنا الخاصة عنها.
2- ذلك سيعني أيضاً أن الله خلق الموجودات التي هي بلاحياة.
3- هو يجادل بأن الذكاء المجرد من الأجسام يمكنه وبدون مساعدة الأجسام الخارجية ممارسة نفس الأفكار والأحاسيس كما نحن نقوم به الآن.
جدال باركلي يبدو أنه يثق بكثافة في الله الذي يعطي مباشرة أفكار الحواس. قد يقال إن الله يُستعمل كسبب لأي شيء لا يستطيع باركلي توضيحه. الله يستطيع توفير الأشياء التي الغرض منها هو أن نتصورها بشكل غير مباشر كأفكار للحواس. إن فكرة الذكاء المجرد من الأجسام الذي يمارس نفس الأحاسيس مثلنا ربما هي صحيحة. لكن، أية فكرة يمارسها ذكاء بلا أجسام يجب أن تكون فقط فكرة للتصور ولا يمكن أن تحوز على الخواص المستمرة والمنسجمة مثلما في أفكارنا للحواس. باركلي يرى أننا نستطيع معرفة وجود الله، لأن أعمال الطبيعة لم تُنتج من قبل الإنسان، ولذلك يجب أن تكون منتجة من قبل الله.
رغم أن كلاً من المادي والمثالي يطرحان حجة مبررة لعقيدتهما، إلا أن هناك شكلاً آخر من المثالية تسمح للمادي بالحفاظ على عقيدته في المادة.
الشيء الوحيد الذي نعرفه وهو موجود بيقين، هو وعينا. هذا يجعلنا نطرح مقدمة، وهي أن الشيء الوحيد الذي يوجد نهائياً هو الوعي الخالص الذي نسميه المطلق أو التام Absolute. يتبع ذلك أن المطلق هو الشيء الموجود الوحيد، وبما أن الوعي ليس شيئاً مادياً، فلا وجود هناك لشيء مادي. المشكلة عندئذ هي في توضيح كيف لنا أن نوجد كأفراد بأذهان مستقلة وأجسام مادية. إذا كان المطلق هو الشيء الوحيد الموجود، عندئذ فإن أذهاننا كوعي يجب أن تكون تماماً مثل الوعي المطلق، وسنبقى بحاجة إلى توضيح لماذا نحن نتصور أنفسنا كأذهان مستقلة محدودة. الأجسام المادية التي نتصورها يجب أن تكون مجرد مظهر في الوعي.
إذا كان المطلق وعياً، عندئذ فهو يجب أن يكون قادراً على خلق الأفكار ضمن ذلك الوعي. تلك الأفكار ربما تتضمن مفاهيم عن المحدودية، مثل الحجم، الشكل، المسافة وغيرها. هذه المفاهيم تسمح للمطلق ليشكل تقسيمات ضمن وعيه. الأجزاء المخلوقة من جانب هذه التقسيمات هي وعينا الفردي، وهكذا، فإن وعي كل فرد هو جزء من وعي المطلق. كأفراد نحن كل واحد منا يكوّن أفكاره الخاصة عن الوعي. تلك الأفكار هي متميزة عن أجزاء المطلق بسبب مفهوم المحدودية المكوّن بواسطته.
إن المطلق أيضاً يشكل أفكار الوعي والتي هي ليست عرضة لمحدودية الأجزاء. تلك الأفكار يتم تصورها من جانب الفرد كأفكار للحواس تعطي الظهور للعالم المادي. بالنسبة إلى المطلق ككل، العالم الموضوعي ليس له حقيقة، وهو ليس أكثر من فكرة في الوعي. أما بالنسبة إلى المطلق كأجزاء، يبدو العالم الموضوعي حقيقياً بسبب مفاهيم المحدودية Limitation ، المادة وهكذا. كأفراد، نحن جزء من العالم المادي. مفهوم المحدودية وأفكار الحواس تعزز تلك العقيدة. مع ذلك، لو أمكن لنا أن ندرك حقيقة وجودنا كمطلق، عندئذ فإن العالم الموضوعي سوف لم يعد يظهر لنا كحقيقة.
The ultimate Nature of matter, Alan Bradnam, Pathways philosophy
الهوامش:
(1) القوى الأساسية الفيزيائية هي أربع، الجاذبية، والقوة الكهرومغناطيسية، القوة النووية القوية، القوة الضعيفة، هذه القوى هي التي تحكم الكيفية التي تتفاعل بها الأشياء أو الجسيمات وأيضاً الكيفية التي تتآكل بها.
(2) في القسم الأول من المبادئ، يقسّم باركلي أشياء المعرفة الإنسانية إلى ثلاث مجموعات، فهي إما أفكار تنطبع على الحواس، أو أفكار يتم تصورها بالتعامل مع العواطف وعمليات الذهن، أو أخيراً، أفكار تتكون بمساعدة الذاكرة والخيال عبر تركيب أو تقسيم أو مجرد تجسيد لتلك الأفكار التي جرى تصورها في الأصل بالطريقتين السابقتين. يستمر باركلي ليصنف القسم الأول (أفكار الحواس) التي تمثل أشياء حقيقية لكل واحدة من الحواس الخمس. فمثلاً، بواسطة الشم يتم تصور العطور، وكذلك بالاستماع يتم تصور المسموع. بما أن العديد من هذه تُلاحظ مترافقة مع غيرها، فهي تأتي تحت اسم واحد، ومن ثم تُفترض كشيء واحد. باركلي وضع قائمة بالأشياء التي تتشكل بأفكار الحواس مثل التفاح، الحجر، الكتاب.