وهذا ما يعلل تنوع أشكاله وأجناسه ومفاهيمه وحواضنه، ودروب وطرق الوصول إليه في عصرنا الحالي، والتي تصل إلى حد التناقض أحياناً. فقد باتت مكونات الجمال وتمظهراته في الفن، كثيرة ومتنوعة ومختلفة وخارج التصنيف والقواعد، ما يُحوّل عمليّة تعريفه إلى إشكاليّة تضاهي إشكاليّة تعريف الفن نفسه، التي لا تزال قائمة ومفتوحة منذ تعرّف إليه الإنسان لأول مرة وحتى اليوم، بل ازدادت صعوبةً وتعقيداً بظهور المزيد من الفعاليات والسلوكيّات الإنسانيّة المنضوية تحت مصطلح (فن) الذي أصبحنا نردده عشرات المرات يومياً، ونطلقه على الطبخ، والسياسة،
والحب، والتشكيل، والسينما، والشعر وغير ذلك، بنفس الحماسة والجديّة والقناعة. لهذا كله، باتت كلمة فن مفردة، لا تعني شيئاً محدداً، بل يلزمها كلمة أو كلمات أخرى ملحقة بها، لإدراك معناها ودلالتها، كأن نقول: فن تشكيلي، فن سينمائي، فن ضوئي، فن تطبيقي، فن حركي ...الخ.
الجمال الفني
هذا بالنسبة للفن، أما بالنسبة للجمال، وبمساعدة الخيال الخصب، والتطور المذهل لوسائل التعبير عنه وتجسيده، لم يعد مقتصراً على الرائعة الفنيّة التقليديّة، لوحة كانت أم تمثالاً أم محفورة أم إعلاناً. بل تعدت مظاهره هذه الأُطر الضيقة والمحدودة، ليستشرف آفاقاً واسعة رحبة وغير مألوفة.
وكما تعددت وتلونت مظاهر الجمال الفني، تعددت وتنوعت وسائل التعبير عنه، فهو لم يعد حكراً على الوسائل التقليديّة التي خدمته طويلاً، وإنما تعداها إلى وسائل تعبير بصريّة جديدة، تعيش حالة دائمة من التناسخ، والتطور والتبدل لارتباطها الوثيق بالعلم والتكنولوجيا وكشوفاتها المتلاحقة.
الجمال الفني بات بالنسبة للكثير من الفنانين والمغامرين الباحثين عن الجديد المستطرف والغريب، موجوداً في كل شيء: في كتل الفوارغ المكبوسة، وفي الصناديق الفارغة الملقاة بإهمال، في ساحة أحد معامل تدويرها، وموجود في هذا الكم الهائل من الصور المأخوذة لرجال ونساء وأطفال ورياضيين وتجمعات بشريّة تمارس فعلاً حياتياً معيناً. نراه في لسان الحديد الناهض من الأرض باتجاه السماء، كما نراه في ثوب الزنبقة الرقيق، وكل ما يحتاجه الجمال الفني ليتأكد ويبرز ويتجسد، هو عين الفنان القادرة على رؤيته وتجسيده، في شكل ما: قد يكون تمثالاً، أو لوحةً، أو صورةً ضوئيّةً، أطرته ضمن كادر مدروس الحركة والعناصر والألوان، وتالياً وّظفته ليقدم دلالة معينة، ضمن حالة تعبيريّة واضحة وقادرة على إيصاله للأخر.
موازين الجمال
من جانب آخر، حالة الانسجام والتوافق، بين الأثر الفني المجسم والمسطح والمحيط أو البيئة الذي يوضع فيها داخل البيوت: على الجدران، أو في أركانها، أو خارجها: في الحديقة والشارع وعلى العمائر، لا تقتصر على الشكل والمضمون والحجم فقط، بل يجب أن تطول المادة والخامة واللون، سواء تلك الموجودة في الأعمال الفنيّة نفسها، أم في المكان أو المحيط المقترح لاحتضانها. فاللوحة المنفذة من الألوان المائية الشفيفة، تحتاج لمكان بسيط هادئ، يُبرز ألوانها الرقيقة ويؤكدها، خلاف الألوان الزيتية القوية، أو ألوان الاكريليك. ولوحة انطباعيّة، غنية بالتمتمات اللونية الواهية، تختلف عن لوحة وحشية، حادة وصريحة الألوان، قوية الخطوط. كذلك الأمر بالنسبة للمحفورة المطبوعة، والملصق، والصورة الضوئيّة.
الأمر نفسه ينسحب على المنحوتة والمشغولة اليدويّة. فالتمثال المنفذ من البرونز غير التمثال المصنوع من الرخام أو الحجر أو الإسمنت أو الخشب أو البوليستر. فلكل خامة ومادة، متطلباتها وشروطها، ولكل منحوتة مستلزمات عرض مناسبة. فتمثال البرونز يتوافق وينسجم مع الرخام أكثر من انسجامه مع الخشب، وتمثال الخشب أكثر توافقاً مع الأشياء المنفذة من الخشب أو الحديد. والفراغ الذي تحتاجه منحوتة مصمطة وثقيلة، يختلف عما تحتاجه المنحوتة الرشيقة المليئة بالفراغات. فالمنحوتة تفقد الكثير من قيمها الفنيّة والتعبيرّية، إن لم تحصل على حاجتها من الفراغ المحيط، وتوضع فوق القاعدة القادرة على إبرازها والانسجام معها. كذلك الأمر مع اللوحة والمحفورة والصورة الضوئيّة والملصق والسجادة الجداريّة، وغير ذلك من المعلقات التي تأخذ طريقها إلى جدار، أو زاوية، أو باب، أو ركن مكتبة، أو طاولة، أو درج، أو حاجز تزيني. بمعنى أخر، يجب دراسة الأثر الفني كمضمون وحجم وشكل، ومن ثم البحث له عن المكان المناسب، بين عناصر ومقومات الديكور، بحيث يتحول هذا الأثر إلى جزء مكمل ومنسجم معه، ومع الوظيفة المناطة بالمكان الحاضن له، استعماليّة خدميّة كانت، أم تعبيريّة وجماليّة وتزينيّة. بمعنى علينا ألا نقحم العمل الفني المسطح أو المجسم (بما في ذلك الكتلة المعماريّة المختلفة المهام والوظائف) في مكان لا يتوافق معه، وينسجم وعناصره ومفرداته، والا بدا هذا العمل شاذاً وغريباً، والعكس صحيح أيضاً، إذ أن مثل هذا الوجود الغريب والشاذ، يمنح المكان نفسه، نفس الخاصيّة، أي يسبغ عليه نوعاً من النفور، والفوضى، والوقع الشاذ في العين والإحساس.
توافق المكان والمداخلة الجماليّة
على هذا الأساس، علينا الوقوف مطولاً، عند أية إضافة فنيّة أو معماريّة، نلحقها بمكان ما: في منازلنا، أو أمكنة عملنا، أو شوارعنا أو أحيائنا، ودراسة خصائص هذه الإضافة، ومقوماتها، ومدى توافقها (أو عدم توافقها) مع مكانها، لكيلا نُسيء إلى قيمها الفنيّة والتقانية أولاً، وإلى قيم وخصائص المكان المقترح لها ثانياً.
عدم الوقوف المتأمل، الواعي، العميق، عند مثل هذه الإضافات، تقودنا إلى حالة من الفوضى، والتلفيق، والمظهر الهجين، والغريب، والشاذ وتالياً غير الجميل والمريح والحضاري، ما ينعكس سلباً، على الناس القاطنين في المكان أو العابرين فيه، بشكل مباشر أو غير مباشر، وهذا المشهد يتكرر في بيوتنا ومدننا وبلداتنا وقرانا: في الشارع، والحي، والحارة، ومدخل البلدة والمدينة، وضمن بيوتنا، وطريقة، توزيع آرماتنا، وإعلاناتنا، وتماثيلنا، ونصبنا التذكاريّة والتزيينيّة، وحتى محلاتنا التجاريّة وعماراتنا و أشكال وتصاميم منتجاتنا الصناعيّة والإعلاميّة والثقافية المختلفة، والإشارات التوجيهيّة الطرقيّة والدلاليّة ، الموزعة داخل المدن والبلدات ، أو في الطرقات العامة الواصلة بينها ، ما يستدعي من الجهات المعنيّة ، إعادة النظر في واقع هذه الأمور مجتمعة ، من أجل منح بلادنا ، اللمسة الجماليّة القادرة على عكس إرثها الحضاري الضارب في أعماق التاريخ الإنساني ، وواقعها الناهض باتجاه التحديث والتطوير .
الواضح والمفهوم
من جانب آخر، علينا الوقوف مطولاً عند شكل وجنس ودلالة المداخلة الفنيّة الجماليّة في الشارع الذي هو ملك لكل الناس، على اختلاف مستوياتهم الثقافيّة، ومن المفترض وضع هذا الاعتبار في كل خطوة نخطيها على هذا الصعيد. بمعنى علينا أن نختار العمل الفني الواضح، المقروء، والمفهوم من قبل الناس، كل الناس، لكي نضمن تفاعلهم معه، وقبولهم له، والاستمتاع بقيمه الفنيّة والدلاليّة، وبالتالي لضمان قيامه بتأدية الدور المناط بوجوده الدائم بينهم، والمتمثل بتقديم المعرفة، ضمن وعاء الجمال الفني، وهذا يؤدي تدريجياً، إلى تطوير ذائقتهم البصريّة، وتراكم ثقافتهم الجماليّة، ومنحهم الشعور بالراحة، لأن وجود العمل الفني في الشارع، والساحة، والحديقة، ومدخل البلدة أو المدينة، يستدعي وجود التنظيم، والترتيب، والنظافة، والعشب، والنباتات، والزهور، والإضاءة المدروسة، وهذه العوامل مجتمعة، إضافة إلى العمل الفني نفسه، تخلق بيئة جماليّة وحضاريّة راقية، ترد على حاجات الإنسان البدنيّة والروحيّة، وترفع من طاقاته على العمل والإنتاج، وتُكرّس فيه الانتماء للمكان، والحفاظ عليه، والتعلق بأرضه ووطنه، والاطمئنان لمستقبله ومستقبل أولاده. هذا من جانب، ومن جانب آخر،
بات وجود الأثر الفني المدرس: شكلاً، ومضموناً، ومكاناً، في التنظيم العمراني للمدن والبلدات، مقياساً ومؤشراً مهماً، لتطور الشعوب، وتقدم الأمم وتحضّرها.