هو المرهف إنسانياً حتى الثمالة أستاذ كل من كتب عن الإبداع في فنون التواصل الإنساني هو الراوية الحافظ، ولن أنسى مجلساً له في زاوية من مقهى البيروتي في حمص أواسط السبعينيات وهو يستجيب لتمن عليه إرشادي إلى قصيدة استعاد أمامي بعض أبياتها:
انتحى زاوية فخط بقلم رصاص عشرات الأبيات هو الصحفي الفذ منشىء الصحف الاغترابية «المؤرخ للمغتربين وقد عاش معاناتهم وإنجازاتهم مؤرخ هو.نعم. لنضالات سورية مكانها عنده يحييها إذا أغفلها محترفو التاريخ من ينكر جلال ماأقدم عليه إذ أرخ لثورة صالح العلي؟
عن جانب من تأريخه لسياسة سورية العربية تلك السياسة الثابتة منذ ولدت سورية المعاصرة تلك السياسة المستهدفة حالياً من قوى عربية وإقليمية ودولية أكرس هذه الكلمة، لأناشد من خلالها مؤرخينا المحترفين، والقيمين على وثائقنا الوطنية المتابعة والتدقيق في التوثيق.
البداية من كتاب رافقني منذ الطفولة أهداه مؤلفه الذي لم يبح باسمه يوم 20/11/1947 إلى فخامة الرئيس شكري القوتلي أما النهاية فأتمنى أن تأتي من وزارة الخارجية السورية ومن الدوائر المختصة بالعناية بوثائقنا الرسمية وأحب أن أتناول النتيجة التي قد نصل إليها.
في الصفحة/89/ من كتاب عنوانه طويل لكنه يشفي الغليل نقرأ قديماً جديده ظهر قبل أيام قليلة في واشنطن
أما العنوان كما يلي: تاريخ أمة في حياة رجل. 17 آب 1943 - 1947 أربع سنوات من العهد الوطني، أما القديم فصفحات رائعة عنوانها: مؤتمر انشاص، تحت العنوان مباشرة كلمة للرئيس القوتلي يصف فيها المؤتمر بأنه «أعظم اجتماع في تاريخ العرب منذ ألف عام».
يروي المؤلف بأسلوب حديث تقرير لجنة التحقيق البريطانية الأميركية المشتركة ذلك التقرير الذي كان رد الفعل السوري الغاضب عليه في أساس انعقاد مؤتمر انشاص فلنعد إلى أجواء تلك الأيام.
- تشرين ثاني 1945: تشكيل لجنة تحقيق بريطانية أميركية لدراسة طلب الرئيس الأميركي في آب 1945 فتح أبواب فلسطين لهجرة 100،000 يهودي.
-25/3/1946: مذكرة من منظمة الهاغانا إلى اللجنة تتحدث عن الوضع العربي الذي لايستطيع مقاومة المشروع الصهيوني.
-15/4/1946: اتمام الجلاء عن سورية وفي الاحتفال بالعيد يوم 17/4/1946 قال مندوب فلسطين محذراً من نتائج عمل اللجنة: لايمكن لسورية أن تبتهج بالجلاء لأن عملية اغتصاب سورية الجنوبية تتصاعد.
-20/4/1946 صدور تقرير اللجنة المشتركة وفيه ضرورة إدخال 100،000 يهودي إلى فلسطين خلال عام 1946.
إذاً ولد الجلاء السوري في ظل تقرير اللجنة المشتركة.
الخطر داهم فما العمل؟ كيف عاشت سورية تلك الأيام بين الابتهاج بالجلاء وبين تصاعد التخوف من النكبة المقبلة؟
لنعد إلى الصفحة /89/ من كتاب اليونس:
«بدأت سلسلة من استشارات واتصالات بين ملوك ورؤساء الدول العربية في هذا الشأن، وكان من أكبر الحوافز لاستعجال اجتماع يضم جميع ملوك العرب ورؤسائهم، الاهتمام الشخصي الذي بذله حضرة صاحب الفخامة شكري القوتلي رئيس الجمهورية السورية في جمع كلمة العرب حول فلسطين وإعلانها على الملأ دحضاً لكل شائعة تقال في وحدة صفوف الملوك والرؤساء في قضية فلسطين، وتأكيداً للعالم بأن المسؤولين في بلاد العرب، لن يتوانوا لحظة عن الاهتمام بقضية فلسطين التي هي قضية العروبة.
وقد تفضل فخامة رئيس الجمهورية فأمر أن يكتب إلى ممثلي الجمهورية السورية في شتى الأقطار العربية، بشأن الاتصال بأصحاب الجلالة والفخامة ملوك ورؤساء وأمراء العرب واطلاعهم على وجهة نظر فخامته في ضرورة القيام بعمل جدي، رداً لتحدي لجنة التحقيق.
وقد استطعنا الحصول على نص الرسالة السامية التي أمر فخامته بتوجيهها إلى الوزراء المفوضين الذين يمثلون الجمهورية السورية في شتى البلاد العربية ليتصلوا بأصحاب الجلالة والفخامة والسمو ملوك ورؤساء وأمراء العرب.
وهذا هو النص:
قابلوا جلالة الملك (سمو الوصي، سمو الأمير) وعرضوا عليه أننا نرى في تقرير لجنة التحقيق مايسيء اساءة شديدة إلى العرب في حقوقهم ومصالحهم وأنه بمثابة تحد للعرب ورؤسائهم وحكوماتهم وشعوبهم الذين ارتبطوا في مختلف تصريحاتهم ومواقفهم بالدفاع عن عروبة فلسطين ومقاومة كل مايهددها.
اعتقد أنه من الواجب والمصلحة أن تقف الدول العربية موقفا حاسماً يثبت للعالم أنها جادة في الدفاع عن فلسطين وأن لهذا اليوم مابعده واذا شعر العالم بترددنا أو توانينا ضاعت هيبة الأمة العربية واستهين بجامعتها واستضعفت دولها في كل مكان لذلك رأيت أن يبادر ملوك ورؤساء وأمراء الدول العربية إلى توجيه نداء إلى جلالة ملك بريطانيا والمستر اتلي وإلى الرئيس ترومان يوجه مثله وزراء الخارجية العرب إلى وزير خارجية بريطانيا وأميركا وذلك بالفحوى أوالمعنى الآتي:
«إن تقرير لجنة تحقيق فلسطين أثار عاصفة استياء وخيبة أمل في جميع بلاد العرب لأنه تحيز جلي لليهود الذين استهدف إرضاءهم وتحقيق مطالبهم، وغمط لحق العرب الصريح، ونواة للقضاء عليهم في وطن عزيز من أوطانهم وتحد لشعور المسلمين وأن تنفيذه أو التشجيع على تنفيذه سيؤدي إلى اضطرابات دامية تهدد سلامة الأمن العالمي ويفضي إلى تعكير الصداقة الجامعة بين الشعوب العربية والشعوب الانكلوساكسونية تلك الصداقة التي تحرص كل الحرص على بقائها وتوثيقها، نناشدكم باسم الحق والسلام وباسم الصداقة ومقتضى المصلحة أن تحولوا دون تنفيذ تقرير اللجنة الذي يكون بمثابة كارثة عظمى وأن تعملوا على إنصاف العرب في فلسطين بطمأنينتهم في بلادهم وتمتعهم بحريتهم ضد الطغيان الصهيوني، وبذلك تثبت الدولتان الديمقراطيتان العظيمتان التزامهما بمبادىء الحق والعدل ومكافحتهما البغي والعدوان وتحافظان على الأمن والسلام».
وقد عقب ذلك مشاورات واتصالات بين أقطاب العرب، أسفرت عن قيام صاحب الجلالة فاروق الأول ملك مصر بتوجيه الدعوة إلى أصحاب الجلالة والفخامة والسمو ملوك ورؤساء وأمراء العرب لحضور مؤتمر(انشاص) التاريخي، في الأيام الأربعة الأخيرة من شهر أيار عام 1946.
ليس للرسالة تاريخ إلا أنها تبقى وثيقة هامة هذا ولم أجد اشارة إليها إلا في كتاب اليونس هل لدى دوائرنا الرسمية أصلها أو نسخة منها هل تشير إلى هذه الرسالة أي وثيقة ثابتة التاريخ سورية أو عربية لا أدري ولم أتقص والتقصي مطلوب.
ولنلاحظ أن فكرة عقد مؤتمر قمة قد انطلقت من دمشق كما هو منطقي وكما توحي الرسالة إلا أن دمشق لم تكن في وضع يسمح لها باستضافة المؤتمر امكاناتها أضعف من ذلك والتقديم السياسي -آنذاك- كان للملوك لا للرؤساء ثم أن القاهرة «عاصمة العرب ومقر جامعتها» وهكذا كان مؤتمر انشاص في 28/5/1946.
بعد أقل من أسبوعين من مؤتمر القمة وبالتحديد في 8/6/1946 كان اجتماع لمجلس جامعة الدول العربية على مستوى رؤساء الحكومات في بلودان بسورية من المرجح أنه عقد اجتماع المجلس كان بمثابة تعويض معنوي لسورية التي منها انطلقت التعبئة لمؤتمر انشاص ويبقى التقصي التاريخي الدقيق مطلوباً وكانت هذه النقطة نقطة أهمية رسالة الرئيس السوري في عقد مؤتمر انشاص واحدة بين مجموعة أمور أعتز بإيفائها حقها إثر موافقة جامعة الدول العربية على قيامي ببحث مطول عن مؤتمرات القمة يوم كنت استاذاً ورئيساً لقسم السياسة في معهد الدراسات العربية العليا إلا إن ذلك البحث انتهى أمره مع توقيع معاهدة السادات بيغن في آذار 1979.
يحار القلم أي جانب يختار من جوانب حياة أرادها صاحبها حافلة فكانت كذلك أحببت في ذكرى أربعينه أن أتوقف عند حدث تاريخي أثاره منذ عام 1947 ولم يحظ بالاهتمام -على حد ما أعلم-
الدرس المستخلص من الحدث واضح كان الاستقلال والجلاء بداية قيادة سورية لعمل عربي جاد من أجل حفظ حقوق فلسطين.
درس تزداد أهميته وراهنيته أليس يتزامن إخراج سورية من جامعة الدول العربية مع زيارة إلى واشنطن يقوم بها وفد وزاري عربي من المتوقع منه تقديم مزيد من التنازل عن حقوق فلسطين؟ ورحم الله عبد اللطيف اليونس!