تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


إمكانية المعرفة مشكلة الأذهان الأخرى

ملحق ثقافي
2018/9/4
حاتم حميد محسن

من بين الاختلافات العديدة بين الفلسفة القارية والفلسفة التحليلية(1) هي الاختلاف في طرق النقاش حول علاقة المرء بالناس الآخرين. في الفلسفة التحليلية يتجسد ذلك بالسؤال عن إمكانية المعرفة تحت عنوان «مشكلة الأذهان الأخرى».

«المشكلة» في السؤال هي كيف نستطيع معرفة وجود الأذهان الأخرى طالما أن أي ذهن لا يظهر بشكل واضح أمام الحواس لأننا لا نستطيع رؤية أو لمس الأذهان.‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

الجواب الكلاسيكي لهذا السؤال والذي لقي صدى لدى العديد من الكتّاب اللاحقين، جاء من جون ستيوارت مل:‏

«أنا أستنتج أن الناس الآخرين لديهم مشاعر مثلي، بسبب أولاً، هم لديهم أجسام مثلي، وهو حسب ما أعرف شرط سابق للشعور، وبسبب ثانياً، هم يعرضون أفعالاً وإشارات خارجية أخرى والتي حسب ما أعرف من التجربة أنها تنشأ بواسطة المشاعر». (اختبار لفلسفة السير وليم هاملتون،1865).‏

من الواضح أن عملية الاستنتاج التي عرضها (مل) ليس لها علاقة بالسبب الذي يدفعنا للاقتناع بوجود أذهان خاصة للناس الذين حولنا. حتى الملاحظات السريعة للأطفال تنبّهنا إلى حقيقة أن مشكلتهم حينما ينمون تدريجياً ويصبحون أكثر اطّلاعاً بالعالم، هي مناقضة تماماً للمشكلة التي اقترحها (مل).‏

أساساً، الأطفال ينسبون حالات ذهنية لكل شيء، هم يعتقدون بوجود عقول ومشاعر في لعبهم بنفس مقدار ما لدى آبائهم، وبمرور الزمن يحصل انحسار في مفهوم الوجودات التي تُنسب إليها الحالات الذهنية. الحيوانات تبقى ضمن هذا المفهوم فترة أطول، وحتى البالغين هم قادرون على أن ينسبوا حالات ذهنية غير واضحة لحيواناتهم المنزلية. في الحقيقة، من السهل لنا أن ننسب الكراهية خصيصاً للأشياء المتمردة غير الحية : مفك البراغي الذي لا يفك، السحّاب الذي يرفض الحركة، الباب الذي لا ينفتح.‏

لذا يبدو أننا جميعاً نبدأ بافتراض حالات ذهنية في كل الوجودات في عالمنا، بطريقة مشابهة لتلك التي نسبت بها الأديان القديمة الروح للأشجار والأنهار وكل الأشياء في العالم الطبيعي. هذا يبدو من الطرق الفطرية التي نميل إليها في التفكير. لذا فإن الاعتقاد بان شيء ما لديه ذهن، هو أمر غير مشتق من تجربتنا أو مستنتج من الدليل وفق أسلوب (مل)، وإنما الافتراض يسبق تجاربنا. نحن إذاً نسعى لوضع الوجودات التي نواجهها ضمن هذا المفهوم.‏

هذه فكرة إيمانويل كانط عن المفهوم القبلي (قبل أن نحتك بالعالم) لطرق التفكير. هذه المفاهيم أوضحها كانط في كتابه (نقد العقل الخالص عام 1781) رغم أن «الفرد الآخر» ليس من بين المفاهيم التي ناقشها كانط في ذلك الكتاب. تركيزه هناك كان منصباً على تحديد المفاهيم الضرورية لنا لنكون قادرين على امتلاك التجربة بالعالم المادي. ومن هنا فإن قائمته بالمفاهيم تتضمن أشياء مثل «جوهر» و»سببية». بدأ كانط بدراسة علاقتنا بالناس الآخرين فقط في كتابه اللاحق (نقد العقل التطبيقي عام 1788)، حيث أوضح رؤيته بأن الخاصية الحاسمة التي تميز علاقاتنا بالناس الآخرين عن علاقاتنا بالأشياء غير الحية، هي القانون الأخلاقي. إحدى صياغاته للقانون الأخلاقي هي «دائماً تعاملْ مع الآخرين كغايات في ذاتهم وليس كوسيلة لغاية». لذا بالنسبة إلى كانط فإن عمليات القانون الأخلاقي الذي اعتقد به هي التي يمكن استنتاجها بواسطة العقل الخالص، والتي تخلق «مملكة الغايات»: عالم الأفراد الأحرار المستقلين.‏

اللاحقون لكانط تُركت لهم مهمة متابعة نتيجة اعتبار «الآخر» أو «الشخص الآخر»، كمفهوم قبلي. الفلسفة القارية استمرت إلى الوقت الحاضر في التحقيق بهذه الفكرة التي لقيت اهتماماً قليلاً من الفلسفة التحليلية.‏

الأذهان الأخرى تستمر كموضوع للتصور حتى عندما لا توجد بشكل واضح، وذلك بسبب الوجود القبلي لمفهوم الآخر في تفكيرنا.‏

هيغل وأتباعه اللاحقون‏

كان هيغل أول فيلسوف بعد كانط عالج أسئلة محددة تتصل بهذا المفهوم. في القسم الأول من عمله فينومينولوجيا الروح 1807 كتب هيغل حول الأسئلة المألوفة المتعلقة بالعلاقات بين الشخص الملاحِظ والأشياء تحت الملاحظة. هو أطلق على هذا اسم «ديالكتيكية الوعي». أما الجزء الثاني من كتابه يعالج القضايا المحددة التي تبرز عندما يتم تمييز الأشياء قيد الملاحظة ذاتها كفرد آخر. يسمي هيغل هذا «ديالكتيكية الوعي الذاتي». الناس ليسوا فقط وعياً وإنما هم أيضاً وعي ذاتي، وحسب رؤية هيغل فإن وعينا الذاتي مرتبط بوعينا بالآخرين. علماء النفس المعاصرون سمّوا وعينا بالآخرين «نظرية الذهن»، والتي يقصدون بها القدرة على التمييز بأن الناس الآخرين لهم عقول، وبهذا هم يضعون استنتاجات تتعلق بما يفكر فيه الآخرون. ولكن بالنسبة إلى هيغل فإن الوعي بأن ذاتي أنا أيضاً شيء للتفكير في هذا الآخر الذي سيضع افتراضاته الخاصة حول أفكاري، يُنتج تأثيراً يشبه مرآتين تواجهان بعضهما، كل واحدة تعكس الآخر في سيل من الصور المتكررة إلى ما لانهاية. خاصية الانعكاس المتبادل لوعي الإنسان الذاتي هذه شغلت التفكير العميق للعديد من المفكرين اللاحقين في الفلسفة القارية،مولّدين سلسلة من مختلف التفسيرات. هيغل ذاته اعتقد بأن المواجهة بين الوعيين الاثنين تستلزم من المرء محاولة التغلب على الآخرين بدمج منظورهم ضمن منظوره. وحتى عندما يفشل هذا فإن المحاولة ذاتها ستعدّل طبيعة الوعي الأول. وهكذا تبدأ السلسلة من مختلف أشكال الوعي التي تشكل تفسير هيغل عن الحياة الإنسانية والتاريخ. هذه العملية يمكنها أن تبدأ فقط بوعي واحد يعترف بوجود الآخرين.‏

هناك رؤية مقابلة اتخذها جان بول سارتر في الوجود والعدم (1943). هنا يصف سارتر ظروفنا بالوجودات التي هي مُلاحظة (لأنفسنا) وأيضاً شيء تحت الملاحظة (بالنسبة إلى الآخرين). لكننا يستحيل أن نعي هذين المظهرين في وقت واحد. وعليه، فإن وعينا يتأرجح بين هذين القطبين، لا يستطيع أبداً فهم الموقفين بوقت واحد. من هذا الموقف تبرز تلك المآزق للتفاعل الإنساني التي يصفها سارتر بجدارة في هذا الكتاب. يختلف سارتر عن هيغل في أن هذا التأرجح لا يقدّم أية سلسلة ممكنة للمراحل التقدمية، وبهذا لا وجود لتطور تاريخي للوعي كما في الأسلوب الهيغلي.‏

إن فكرة هيغل عن التطور الديالكتيكي لن يكون لها تأثير في الذات والموضوع السارتري. هذا هو السبب الأصلي في الصعوبة التي واجهها سارتر بدمج التاريخ ضمن مشروعه الفكري، ما قاد إلى فشله في محاولة التوفيق بين فلسفته والفلسفة الماركسية.‏

اتجاه آخر لنفس هذه القضايا يمكن العثور عليه في أعمال الفلاسفة القاريين أمثال ألكسندر كوجيف و مارتن بوبر وإيمانويل ليفان وميشيل فوكو وآخرين. الموضوع أثبت أنه حقل خصب للتحقيق، يُنتج تأملات عميقة حول الخصائص الأساسية للتفاعل الإنساني.‏

لاكان والمحللون النفسانيون‏

من بين العديد من المفكرين الفرنسيين الذين ساهموا بتطوير هذا النقاش، هو المحلل النفساني المثير للجدل جاك لاكان (1901-1981). لاكان أنكر مراراً كونه فيلسوفاً، لكنه في مقابلة مع إحدى المجلات أشار «أحياناً يحدث شيء ما في الفلسفة الحديثة يخلق ارتباطاً مميزاً مع حقول أخرى. فمثلاً في التحليل النفسي إننا فقط عبر قراءة التحليل النفسي من خلال المثالية الألمانية نستطيع الوصول إلى ما بلغته ثورة التحليل النفسي». من المثالية الألمانية فقط – وخاصة التفكير الهيغلي – برزت مختلف النظريات الحديثة للآخر.‏

ابتكار لاكان كان إعادة تفسير نظريات اللاوعي وفق ديالكتيكية الذات والآخر بدلاً من البواعث البيولوجية التي اقترحها فرويد. في نظرية الآخر، ساهم لاكان أيضاً في التمييز بين الآخر الكبير (المشار إليه بـ A) والآخر الصغير (المشار إليه بـ a). في العمل المبكر للاكان تشير (a) إلى فرد آخر اعتُبر قريناً لنا، ومرآة لأنفسنا، شريكاً متساوياً في الحوار، بينما (A ) الآخر الكبير أو «المطلق الآخر» يحوّل مفهوم الآخرية إلى وجود منفصل خالقاً «الآخرية في ذاتها». هذا التحويل في الفكرة يعترف بقدرتنا على فصل مفهوم الآخر عن أي فرد معين وحتى عن أي وجود مادي مثل الأنهار أو الأشجار أو الصخور.‏

لكن الآخر ربما أيضاً يتشخص بالمجتمع ذاته بكل قواعده وافتراضاته وقوانينه التي نُخضع لها أنفسنا. والخيار الآخر بالنسبة إلى لاكان هو أن نفهم الآخر كمصدر للّغة نستمد منه كلامنا. عندما أتحدث مع قرين آخر (a صغير)، فإن الكلمات والنحو الذي نستعمله لا تعود إلى أي منا. نحن نستعير ونستعمل اللغة من مصدر خارج أنفسنا – الآخر الكبير. من هنا هو يشتق حقيقة أنني لا أستطيع أبداً السيطرة كلياً على المعاني المنقولة بواسطة كلماتي – ما أقوله سوف يمتلك دائماً النزعة لتجاوز النوايا التي لدي في الكلام. وفق نظرية لاكان، هذا التجاوز هو اللاوعي. لذا فإن اللاوعي ينتج عن استعمالنا للّغة، ينتج عن الحقيقة الأساسية بأننا كائنات تتحدث. سواء قبل المرء المفهوم اللاكاني للاوعي «خطاب الآخر»، أو المفهوم الفرويدي كمكان للذهن مكبوح عن الوعي، فإن المرء ملتزم بالاعتراف أن الذهن الإنساني ليس شفافاً لذاته، ولا يمكن كشفه كلياً بأي مقدار من اختبار المشاعر والآراء. هذه الفكرة جرى الأخذ بها من جانب الفلاسفة التحليليين الذين بالنسبة إليهم يميل الوعي ليكون وعياً ذاتياً واضح كلياً. وسواء قبلنا أم لم نقبل بافتراضاتهم، فإن وجود هذه النظريات للتحليل النفسي تُظهر أن هذا الافتراض بالوضوح التام للوعي الذاتي هو مشكوك فيه ويتطلب تبريراً. في الحقيقة، إذا كان الفلاسفة التحليليون أكثر وعياً بالوسائل الأخرى للتفكير، فهم سيصبحون واعين بالطبيعة المثيرة للجدل للعديد من افتراضاتهم الأساسية غير المؤكدة. إن الانقسام بين الفلسفة القارية والتحليلية في الفلسفة الغربية، لا يفيد أي طرف، لكنه لا يعطي أية إشارة عن إمكانية ردم الهوة بينهما في المستقبل القريب. النظر في مفهوم الآخر يساعدنا في إلقاء الضوء على طبيعة هذا الانقسام.‏

‏The concept of the other from Kant to Lacan,Philosophy Now Aug/Sep 2018‏

..‏

الهوامش‏

(1) الفلسفة القارية continental philosophy، هي الفلسفة الأكثر شيوعاً في دول أوروبا الغربية غير الناطقة بالإنجليزية كألمانيا وفرنسا. الآباء المؤسسون لهذه التقاليد الفلسفية هم هيغل ونيتشة وهيدغر، والاهتمام الرئيسي لهذه الفلسفة هو الممارسة والتركيز على فهم «الظروف الإنسانية». الفلاسفة القاريون يرفضون فكرة أن العلوم الطبيعية هي الطريقة الوحيدة لفهم الظاهرة وإنما يعتبرون العلم يعتمد على «خبرة نظرية قبلية»، وإن الطريقة العلمية ليست كافية للفهم. أما الفلسفة التحليلية Analytic philosophy والتي تسود في دول تتحدث الإنجليزية كبريطانيا وأمريكا، فهي مجموعة من التقاليد الفلسفية أسسها الآباء Freg, Russell, Wittgenstein, Moor، ومصادرهم الأساسية هي المنطق والعلوم والرياضيات. اهتمامهم ينصب على ما هو موجود وكيفية معرفته.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية