تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الفن البصري اكتشاف الجديد في اللون

ملحق ثقافي
2018/9/4
د. محمود شاهين

يعد (الفن البصري) أو (الأوب ـ آرت) أو (فن خداع البصر) من الفنون البصريّة الحديثة التي ولدت وتطورت وتشعبت استخداماتها في عصرنا.

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

ينتمي هذا الفن إلى أسرة الفن الحركي المجرد، وله علاقة مباشرة بالعين، حيث يأتي تأثيره من خلال الإحساس الفوري المباشر وليس من التفسير الإدراكي للكليات، وقد لاقى هذا الفن انتشاراً واسعاً، وقبولاً كبيراً، من قبل الناس.‏‏‏‏‏‏

شعبيّة الفن البصري‏‏‏‏‏‏

يرجع العديد من النقاد والباحثين، شعبية فن خداع البصر وذيوعه بين الطبقات الاجتماعيّة كافة، إلى ما هو أبعد من تأثيره الفوري والمباشر على العين، فهو مثل الفن الحركي الذي تجمعه معه قواسم مشتركة عديدة، تكثر وتقل، حسب استخداماته، ولهذا الفن علاقة مباشرة بالعصر التكنولوجي المتزايد الغموض الذي نعيشه، وبمجموعة من الصدف العلميّة الكيميائيّة المقادة من قبل علماء وليس فنانين تشكيليين. فقد اكتشف عالم كان يعكف على وضع معادلة معقدة في مختبره، نفس الخطوط والمساحات اللونيّة والأشكال البصريّة التي شكّلت فيما بعد، السمة العامة لهذا الفن الذي خلقها الفنان التشكيلي بنوع من القصديّة، ما يجعلنا نجزم بوجود علاقة وثيقة لهذا الفن بالتكنولوجيا ومعطياتها الأكثر من أن تحصى في أيامنا هذه، والمتزايدة يوماً بعد يوم، لاسيّما تلك التي يفرزها علم الكيمياء والفيزياء، وعلم الألوان الواسع الانتشار، والمتعدد المصادر، والذي لم يعد مقتصراً على الفنون التشكيليّة، بل تعداها إلى أجناس الفنون البصريّة كافة، بما في ذلك، السينما، والتلفاز، والانترنت، والمسرح، والإعلان، ومجالات أخرى كثيرة، يصعب الوقوف عندها، أو تعدادها.‏‏‏‏‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

سمات واستخدامات هذا الفن‏‏‏‏‏‏

تأتي خواص هذا الفن ومقوماته الرئيسة، من عملية محكمة ومدروسة لعلاقة الشكل واللون والحركة، وبالتحديد علاقة اللونين الأبيض والأسود،‏‏‏‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏والتضاد اللوني الصريح والحاد، والتدرجات اللونيّة الناتجة عن مزج لونين أو أكثر، بنسب مدروسة، حيث ينداح من هذه العمليّة، درجات جديدة لا حصر لها.‏‏‏‏‏‏

بمعنى آخر: تأتي سمات وتأثيرات فن خداع البصر، من لعبة شكليّة متقنة، تتوجه مباشرة إلى العين فتتصيدها وتوحي لها بأشكال واقعيّة وافتراضيّة، واضحة ومجهولة، مقروءة وغامضة، يلزمها حالة تأمل وإمعان للوقوف على حقيقة ماهيتها.‏‏‏‏‏‏

يُستخدم فن خداع البصر في العديد من المهام والوظائف الفنيّة والتوجيهيّة والنفسيّة. فقد أخذ طريقه إلى العمل الفني القائم بذاته، والمندرج ضمن أسرة الفن التشكيلي. واستخدم بكثرة في فنون الإعلان والتوجيه، لاسيّما في الشوارع والطرق والإعلانات المختلفة الأشكال والألوان والأهداف. كما استعمله علم النفس في العديد من التجارب، بهدف التأكيد على جوانب عديدة من حالات الخداع التي تمارسه بعض الأشياء والأشكال في الواقع، والانعكاس التضليلي لذلك كله، على الإدراكات الأوليّة والسريعة للإنسان.‏‏‏‏‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

تشعبت استخدامات فن خداع البصر في عصرنا المتسارع الكشوفات. فأصبح يستخدم في الدعاية والإعلان والتوجيه والإرشاد والعمارة الداخليّة وفنون الكتاب والسينما وصناعة الأزياء والديكور. كما استفاد فن الحفر المطبوع من بعض معطياته، ودخل في تصميم زينة النساء، فوصل إلى الحلي، وظل العيون، وصباغ الشعر.‏‏‏‏‏‏

في خدمة الصناعة‏‏‏‏‏‏

وُجد فن خداع البصر في الأساس، لخدمة الصناعة والترويج لمنتجاتها، بدأ بتأكيد وجوده القوي خلال فترة الستينيات في أمريكا ثم في أوروبا، حيث اعتبر واحداً من إفرازات الفن المعاصر، ثم ما لبث أن تراجع ليتحول إلى مجرد عنصر وظيفي تابع للفنون التي أخذ منها، ونشأ عليها، أو تأثر بها، ويعد الفنان المجري (فيكتور فازاريللي) في طليعة رواد الفن البصري الحديث الذي ولد منتصف القرن العشرين، وأخذ طريقه إلى استخدامات فنيّة تطبيقيّة وإعلانيّة ونفسيّة وتوجيهيّة عديدة، في الحياة المعاصرة. كما طُبقت كشوفات هذا الفن على العمارة الحديثة.‏‏‏‏‏‏

فيكتور فازاريللي‏‏‏‏‏‏

ولد فازاريللي عام 1908. درس في (الباوهاوس) بالعاصمة المجريّة (بودابست)، انتقل بعدها إلى فرنسا، حيث عمل في الحفر والإعلان.‏‏‏‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

نشر عام 1955 بيانه الشهير عن الفن البصري، ثم قام بإنتاجه، معتمداً على الطباعة والدراسات العلميّة الدقيقة والعديد من المواد والخامات. وضع فنه هذا في خدمة العمارة وتنظيم المدن وقضايا اجتماعيّة كثيرة.‏‏‏‏‏‏

يقول فازاريللي بأن الاكتشاف الحقيقي بالنسبة إليه، هو التعرف على التجريد عام 1974 عندما عرف أنه يمكن للون والشكل أن يعبرا عن العالم بأسره. فاللون والشكل لا يمكن أن يوجدا بشكل منفصل أحدهما عن الآخر، لأنهما ليس شيئين مختلفين عن بعضهما، وإنما هما شيء واحد. كل شكل هو أساس للون، وكل لون رمز للشكل. إن وحدة اللون والشكل في الفنون الجميلة هي مثل جزئية الماء في الطبيعة. إنها القيمة الأوليّة للفن.‏‏‏‏‏‏

كان فازاريللي يحلم بفن جماعي، ويعتقد أن الحس الجمالي يعيش داخل نفوس الناس، تماماً كما يعيش الحس بالإيقاع والموسيقا، وكان الهدف من عمله هو إثبات أن المساكن الشعبيّة في العالم أجمع، يمكن أن تكون أكثر إنسانيّة فيما لو أُدخلت في بنائها عناصر جماليّة.‏‏‏‏‏‏

والحقيقة لم يجد فازاريللي برنامجاً معيناً، إنما كان يلعب بالأبعاد، ويطبق عملياً مبدأ التركيب الخالص، منطلقاً من أضلاع وأسطح ومكعبات، ومن سلم الألوان. فهو يبهر الناظر، ويحول كل الأسطح المتحركة ليغيّر مكان نقطة البصر المعتادة، وليكشف الجديد في المادة وفي الشكل وفي اللون. بيد أن ظاهرة الفن البصري لم تدم طويلاً.‏‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

ففي حين استُوعب التيار الأمريكي، وذاب في الحركات الفنيّة الجديدة التي تتالت بسرعة، وجب التمييز في أوروبا بين (الحركة البصريّة) و(الحركة الواقعيّة). لكن الفن البصري، والفن الحركي، تابعا مسيرهما معاً وتوصلا إلى أعمال شغلت مساحات كبيرة سميت أحياناً (بيئات).‏‏‏‏‏‏

تشاركيّة المتلقي‏‏‏‏‏‏

يُعرّف الدكتور محمود أمهز الفن البصري بأنه استخدام بنى هندسيّة مختلفة، وتراكم اللحمات، وتجاوز الخطوط، وتوزيع الألوان المسطحة ومتفاوتة الأعماق، وهذه كلها ستؤدي إلى ظواهر مختلفة الالتماع والتموج، توهج الألوان وتزيد من انتشارها وتداخلها وتقلصها وامتدادها، ثم من التضادات المتزامنة والمتتاليّة. كل ذلك يقود (من خلال هذا الحوار الدائم بين الألوان الحارة والباردة، ونتيجة للمزج البصري، واللبس الشامل، والتقلب الدائم للعناصر التشكيليّة) إلى تهيجات الشبكيّة وتشنجاتها، بشكل يتحول معه المشاهد إلى شريك في اللوحة. وهنا أيضاً، يبدو الفن البصري قريباً في اهتماماته من التجارب العلميّة لنهاية القرن التاسع عشر، لانعكاس هذه المحاولات في الجماليّة الصناعيّة واللباس، وهو ما يفسر وجود بعض الصدى الاجتماعي لنتاج الفن البصري الذي ساهم (كما يقول بوبير) في إيجاد وتربية أو صدمة بصريّة تثير إحساسات جديدة، وتبرز الإمكانات البصريّة والدمجيّة لكل فرد.‏‏‏‏‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

إيهامات بصريّة‏‏‏‏‏‏

والحقيقة، يمثل الفن البصري مرحلة متطورة لهذا الجانب من الاهتمامات اللونيّة، وما تثيره من ايهامات بصريّة قد نجد جذورها في العديد من التيارات الفنيّة التي رافقت التطور العام في مجال الرسم والتصوير، ونتلمسها بوضوح أكبر عند الانطباعيين والفنانين الذين كانت لهم اهتمامات خاصة بالتفاعل اللوني أمثال (كوبكا) (وموندريان) و(فان دوسبرغ) و(ودولوني). وفي مجال التأليف والمظاهر الخطيّة واختبار الألوان والمواد، كما تشكل التكعيبيّة وأعمال بعض الفنانين اللاصوريين مثل (تاتلين) و(كلي) و(شويترز) أحد مصادر الفن البصري الذي كانت ولادته الحقيقيّة نهاية الخمسينيات.‏‏‏‏‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية