وصولاً إلى ما نُطلق عليه البرنامجَ، والبرمجةَ الضرورية لوضعه في حيز التطبيق العملي، وتحويل الفكر إلى سياسة عمل, والسياسة إلى حَدَثٍ يومي يسير مع الناس نحو مصالحها, وتسير الناس معه نحو تحولات واقعية، يومية، تتعزز في صورتها الحياة المملوءة بالأمل، والعقل, والتبصّر، وبذلك تتشكّلُ في الوطن وطنيةُ الجميع، ويتغلّبُ المزاج الجماعي والأخلاق المجتمعية على كل ما دون ذلك, ويُضْحي الإنجاز يتلو الإنجاز في جهد الكل داخل الوطن الواحد، وحلم الجميع بتحقيق المشروع الفكري والسياسي الموصل إلى ضفاف المستقبل الموفرة للمستوى الكبير من العيش الكريم، ومن الأمن والاستقرار وتبلور صورة الإنسان الجديد، بعقله، وثقافته، وقيم سلوكه, وأخلاقياته.
وفي هذا السياق تعطينا التجربة في التاريخ الوطني لأمم مختلفة, ودولها بأن الترابط المطلوب بين الفكري والسياسي, والبرامجي يمثل حلقات تأثر وتأثير متبادلة، كما يمثل صلة الفرع بالأصل، والعكس، وصلة المصدر، والخيار الملائم والعكس. أي كلما ترجم المصدر نفسه في سياسته وبرنامجه، وخياراته، استطاع أن يلتقط اللحظة التاريخية في أسلوبه، وتمكّن من الوصول إلى الجبهة العريضة في البشر أهل الوطن التاريخي، وكلما وصلت متلازمات المصدر إلى الأسلوبية المناسبة تغيّرت مباشرة أوجه كثيرة في طبيعة المجتمع المأمول في النظر، والعمل.
وضمن أي مراجعة نقدية وتحليلية وموضوعية لا بد أن تبدأ المراجعة من السؤال الأساس: بماذا كنا نفكر؟ وكيف كنا نعمل؟ وإلى ماذا توصلنا؟ والفارق الطبيعي بين مراجعةٍ وعدمها هو الانطلاق من السؤال الأساس، أو عدمه. ونعلم جميعاً أن فرداً، أو مجموعة سياسية، أو اجتماعية ليس سهلاً عليها أن تأتي إلى جَرْدَةِ حسابٍ فالكل يريد أن يعمل كما يحلو له، ويرغب بأن تسير الناس معه فيما يعمل بغض النظر عن الخطأ والصواب. وإذا جانبت هذه الطريقة منطق التبصّر العقلاني فلا يريد كذلك الاعتراف.
ولكي لا نكثر من المؤشرات البرهانية على المنطق والمنطقي في التفكير والسياسة نباشر التطبيق بالتناول إلى الفكر الذي تم تقديمه للناس منذ بداية زمن الربيع المزعوم بأنه فكر الحرية، وفكر الديمقراطية، وحقوق الإنسان والتعددية، وفكر العدل ومقاومة الاستبداد بكافة أشكاله وتنوعاته, وفكر الوصول إلى مجتمعٍ موحّد، ووطنيةٍ واحدة, ووطنٍ يعيش به الناس كما يحلمون. هذا ما قد تمّ تقديمه للناس.
وحين باشر هذا الفكر سياسته, وبرامجه لم تنعكس في السياسة صورة الحرية للجميع كما كان المطلب بل صارت السياسة المعمول بها تنفث الحقد, والكراهية, والإقصاء بأشنع ما عَرَفَ تاريخ الخطاب الثأري وسرعان ما سقطت مطارح الفكر ومطارحاته السياسية والبرامجية لندخل في حلبة صراع سريع كالوجبات السريعة وكأن الذين قدّموا لنا هذا الفكر ليس لديهم الوقت الكافي كي يعملوا به فكرياً، واستسهلوا قتل المخالف لهم قبل إقناعه. فرأينا أن الاستبداد الذي قيل عنه بأنه كان بالعزل, واحتجاز الحرية يُستبدل على أيديهم بالقتل وانتزاع الملك والملكية من الناس، والتعامل مع المواطنين بلغة التفجير، والتقطيع، والترويع, ومستندهم ظاهراً الدين, وباطناً الصهاينة والأميركيين وتركيا والخليجيين.
والطامّة الكبرى أنهم على طريق الحرية حرروا المواطن من بيته, ورزقه, وما ملك بعرق جبينه، وأخذوه علاوة على ذلك درعاً بشرياً, وإذا ما أصابه مكروه فالدولة هي التي أصابته به, وهم الأبرياء. وعلى الطريق ذاته صارت المدرسة والمؤسسة العلمية غير ضرورية والعلم كذلك فالمهم أن نقاتل الكفار. وصار الجامع والكنيسة لا يعفيان من زيارة القذائف للهاون المؤمن الذي أتونا به. وصار سعي المواطن في شوارع بلاده بحثاً عن احتياجات عيشه خروجاً على الطريقة التي رسموها له بأن يبقى في بيته حتى يموت؛ فالهاون سيطال حتى مناطق بيع الغذاء, والماء, والدواء، والوقود, والكهرباء, وكل ما لا يمكن أن تستمر الحياة بدونه، حيث إن الحرية تعني عدم استمرار الحياة, والموت هو الحياة اللازمة للمؤمنين على هكذا طريقة.
والسياسة عندهم هي منهج العرقلة في كل حلٍّ وطني طالما بنيت على الإقصاء, والتنحّي, والإزاحة، ولم تبنَ على المشاركة، واحترام الآخر، والإقرار بوجوده الوطني, ودوره, وحلمه كيف يحيا في وطن كريم ومتوافق مع العصر. والأدهى هو أن الذين يدعمون مثل هؤلاء (الثائرين) هم من العصر, ويقفون مع من هو من قبور التاريخ، وكهوف الجهل والظلام دون أن تأخذهم في هذه السياسة أية حسابات في أنهم يقتلون في بلادنا التنوع الاجتماعي المخصّب، والتنوع الديني المخصب، ثم لن يسمحوا للتنوع السياسي بأن يدير سياسة العصر، فالعصر تقرر قتله، والعرب محكوم عليهم أن يواصلوا الوجود الساكن خارج العصر وكل عصر.
ورغم قتامة الصورة التي يقدمونها للناس فهم كأدوات ليسوا خاضعين للمراجعة, بل لطريقة أن يقتلوا، أو يُقتلوا وعلى هذا فالطريق إلى جنيف لا يعنيهم، وبالأمس قصفوا المدرسة الفرنسية ولم تتحرك لرئيس فرنسا قصبة, فالضالعون معهم في المخطط التفتيتي لبلادنا سيغطونهم خاصة أن المطلوب من فتنتهم أن تنقل النار الطائفية إلى لبنان وحوادث جبل محسن والعراق وكل مسلسل التفجير الإرهابي، ورغم ذلك فالأرض, والناس، وكل من يفكر في عقلانية توصل إلى أن الذي أتوا به على جسر الربيع سقطوا به وأسقطوه, وعلى جسر الخلاص سقطوا كذلك، والمواطن السوري اليوم صار صموده درساً عربياً، وإقليمياً، ودولياً يعلن عن أن الفكر الصهيوأميركي لم يعد له من يصغي إليه في بلادنا، والحلف المقاوم الذي تتبلور إنجازاته في كل يوم لم يعد لأية مؤامرة قدرةٌ على كسر إرادته، فالزيارة السورية الأخيرة إلى إيران، وموقف دول البريكس وشنغهاي وإلبا تصنع لحظة التاريخ القادم، وتسجل للعرب العنوان الجديد على فضاء التحرر, والعدل, والمساواة, وما فكروا به من أجلنا سيندرج كما اندرج ما سبقه في ملفاتِ ما كان من تاريخ أسود.