ليس هذا فحسب, بل إن رواد التوجه التنويري شرعوا بالتركيز على مفهوم التسامح في الحضارة العربية وكأنهم يعلقون على صدرها أوسمة من نور.
ولعل هذا ما يدعو المراقب إلى التوقف قليلاً لدى مفهوم التسامح بأبعاده اللغوية والسياسية والدينية.
فالتسامح في لغة الضاد يعني الصفح عن الآخر إذا ما تجاوز الحد ومارس ضرباً من البغي عليك, والعفو عن إساءاته تجاهك ما استطعت إلى ذلك سبيلاً والتساهل إزاء اعتداءاته على حقوقك الخاصة, وهذا يعني بأن التغاضي عن أخطاء الآخرين والصبر عليها فضيلة, ولهذا حقق المثل السائر (المسامح كريم) حضوره على طول امتداد التاريخ العربي وحتى يومنا هذا.
ذلكم هو مفهوم التسامح في الإرث الحضاري العربي لغة وتوجهاً وسلوكاً باعتباره التجسيد المتعالي لوائح القيم الأخلاقية للإنسان الحضاري كلاً وتفصيلاً.
بينما لمفهوم التسامح في التوجه الحضاري الغربي بعداً آخر باعتباره مصطلحاً استعلائياً نابعاً من ثقافة غير متسامحة تنطوي على إلغاء الآخر حيناً وعلى تهميشه حيناً آخر لأن الغرب يقدم نفسه على أنه يمتلك ناصية الحقيقة المطلقة وأن الآخر هو باطل الأباطيل, ولهذا لا يتسامح معه إلا إذا فرضت عليه الضرورة القصوى ذلك, من هذا المنطلق رفع الغرب شعارات التعددية الثقافية والسياسية والدينية وصولاً إلى فتح حوار الحضارات.
في حين يجد المراقب المحايد توجهاً رؤيوياً مختلفاً كل الاختلاف في القوانين الناظمة للحضارة العربية.. سيجد مفهوماً مغايراً للمفهوم الغربي على مستوى العلاقة بين الأنا والآخر, باعتبار الخط الناظم للحضارة العربية منطلق من أبجديات الأخوة بين الناس كلهم, الأمر الذي يقتضي أولاً ويفرض ثانياً حق التعايش المشترك بين بني الإنسان بغض النظر عن التمايز والاختلاف الديني والعنصري والثقافي في الوطن الواحد وفي ظلال الدولة الواحدة, ليس هذا فحسب بل لهذا الآخر الحق في أن يعتقد بما يشاء ويمارس طقوسه وشعائره في معابده التي تحرسها الدولة والمجتمع, كما من حقه احتضان الإرث الثقافي الذي يختزنه ويفكر كما يريد بكفالة الدولة والمجتمع وليس هنالك سلطة من حقها الحؤول بينه وبين ذلك, ومنطق التاريخ الحضاري على طول امتداد الأحقاب يؤكد لنا وبمزيد من الحسم بأن الحضارة العربية الإسلامية نسيج وحدها في ذلك وأنها الحضارة الوحيدة التي أسست لقوانين إنسانية احتضنت الآخر ورعت حقوقه الدينية والثقافية وأتاحت له كل الفرص لتحقيق حضوره العقائدي والحضاري واللغوي وصولاً إلى مناصب عليا في الدولة كما إلى حضوره العلمي والأدبي والفني على كل الأصعدة والمستويات, وبذلك صاغت علاقتها مع الآخر على أسس الأخوة والمساواة وبشكل فصلت فيه علاقاتها مع هذا الآخر وفق منطق تمايز وتعايش وإخاء وليس على منطق (التميز والاستعلاء) كما هو واقع الحال في الحضارة الغربية.
وبما أن جوهر الحضارة الغربية يقوم على منطق الاستعلاء ومصادرة الحقيقة نسجت تعاملها على أسس غير متسامحة مع الآخر لأنها تنطوي على نفي الآخر ثم ما لبثت أن أفرزت مفردة التسامح مع إطلالة عصر النهضة كنتيجة حتمية لحل التأزمات المتفاقمة التي ولدتها حركات التحرر الفكري والسياسي على الكنيسة ولاسيما بعد أن أخفقت محاكم التفتيش ووجدت نفسها مضطردة إلى فرز مفهوم التسامح الذي غدا شعاراً على صعيد الحياة الفكرية والسياسية بيد أن أبجدية التسامح هذه حققت حضورها في القارة العجوز أوروبا فقط, بينما استمر تعاملها مع الشرق تعامل السادة مع العبيد.. تعامل نسيجه التعالي ولحمته نفي كلي لإنسانية هذا الشرق, وتلكم هي المركزية الأوروبية التي ما فتئت أن غدت مركزية غربية حينما دخلت الولايات المتحدة الأميركية لعبة السياسة الدولية وشرعت بإقامة أحلاف عدوانية وزرع قواعد عسكرية تحت شعار إيقاف مد (العدو المفيد) ممثلاً بالاتحاد السوفييتي وذلك بعد أن أصبح إيزنهاور واحداً من أهم رموز القوة عشية الحرب الكونية الثانية.
وإذا كانت أوروبا أعلنت مخاوفها من الشرق بعد صدور كتاب باول شمنز (الإسلام قوة الغد العالمية) في أربعينيات القرن العشرين, فإن الولايات المتحدة انساقت بعيداً في هذا المضمار عقب سقوط الاتحاد السوفييتي فاخترعت (العدو المفيد) الآخر ممثلاً بالعالمين العربي والإسلامي موظفة كل الخطوط الأوروبية الساخنة ضد الشرق بدءاً من صيحات المؤرخ اليهودي برنارد لويس تحت عنوان (جذور الهياج الإسلامي) واعتباره الحضارة العربية تحتضن توجهاً عدوانياً ووصولاً إلى إعلان صموئيل هنتجتون في كتابه (صدام الحضارات) ثم جاء فوكوياما ليطلق نظريته نهاية التاريخ إيذاناً بانتصار الامبريالية على الشيوعية وحتمية قيام النظام العالمي الجديد تحت لواء الامبراطورية الأميركية التي راحت تزداد قوة وشراسة.
هكذا وبكل بساطة لم يتوقف الغرب عن تشييع جنازة (التسامح) فحسب, وإنما راح يعد العدة لتشييع جنازة الشرق العربي الإسلامي باعتباره التهديد المخيف للحضارة الغربية مع صيحات فوكوياما وهنتجتون المغرقة بالتطرف الغربي, لكنما والحق يقال تزامنت مع ذلك صيحات ذات بعد إنساني أولاً ولا تخلو من منطق معقلن ثانياً ليقلبوا نظرية صدام الحضارات رأساً على عقب برفع شعار (حوار الحضارات) صاغتها أدمغة ذات رؤى حضارية معتبرة العرب والمسلمين لا يشكلون مقتلاً للغرب وإن كانوا يشكلون تحدياً كبيراً, لكنما لسوء الحظ لم يخرج شعار حوار الحضارات من دائرته الضيقة, في حين أخذ صدام الحضارات طريقه ممتطياً صهوة أبشع أسلحة الدمار ليقيم حمامات دم من أفغانستان شرقاً عبوراً إلى بلاد ما بين النهرين وحتى عبوراً الصومال والبوسنة والهرسك غرباً, ناهيك عن الأحلاف والمعاهدات التي أقامتها واشنطن تحت (يافطات) كاذبة لتغدو معاهدات تحكم وتسلط على شعور وحكومات كثيرة في العالمين العربي والإسلامي.
إن قراءة معقلنة للتسامح بمفهومه الغربي لا يخرج عن دوائر الكبرياء والتعالي على الآخر وإشعاره بدونيته وصغاره.. وبالتالي فهو نفي لإنسانية الإنسان وإجهاض لكل لوائح القيم الدينية والأخلاقية واستباحة لرواقات الحكمة وصولاً إلى تحطيم الحضارة وإفراغها من مضامينها السامية.
ولهذا, إذا كان الغرب حريصاً على الإسهام في رسم صورة المستقبل لقريتنا الصغيرة الأرض. فعليه إعادة النظر بصيحات رومان رولان واسوالد اشبنغلر وارنولد تويني التي أنذرت بسقوط الحضارة الغربية ولجم دعاة صراع الحضارات فتحاً لدروب حوار الحضارات الذي انبثق من مهبط الديانات السماوية في الهلال الخصيب خاصة والجغرافيات العربية عامة منذ آلاف السنين, ثم حددت أبعاد الحضارة العربية الإسلامية, ولعل أول من فطن إلى هذه الظاهرة المستشرق النمساوي غوستاف جيرونيا دم في كتابه (حضارة الإسلام) مؤكداً أن الإسلام الحضاري صاغته العقول السورية ما بين نهرية في القرون الهجرية الأولى, ولعل صورة التشكل السكاني (الديمغرافي) للهلال الخصيب حتى اليوم تؤكد نظرية حق الاختلاف وحق التعايش المشترك لكل الأعراق والعقائد والأديان والثقافات, حيث أحصى بعض المستشرقين التوزعات الدينية والطائفية والعرقية والثقافية في سورية وما بين النهرين, فتجاوزت هذه التعدديات الستين ومع ذلك حققت تعايشاً وائتلافاً اجتماعياً ووطنياً أحقاباً من السنين.
ولهذا أقول: لا للتسامح بمفهومه الغربي ونعم لحق الاختلاف وحق العيش المشترك بمفهومه العربي.
فهل من مذكر?!