وأعشقُ ترتيلةً في بلادي تناقلها كالصباحِ الرعاةُ;
رموها على الشَّمس قطعةَ فجرٍ نقيٍّ, وصلوا عليها وماتوا..
إذا ضحك الموتُ في شفتيكَ, بكت من حنينٍ إليك الحياةُ )
أدونيس عشّابٌ قديم في حقل اللغة, يعرف, كما يعرف القرويون المعتقّون بدمع الصبر ونيران الحب, كيف يُنقِّي الدلالات الطيبة من بين حشد الكلمات, ويظلُّ يشحذ سيف الإشارات والمعاني بأناة بليغة.. وينجح, عند حدِّ البروق, في تأكيد مهابة كلِّ مفردة, ويزداد لمعان برق الجمل عند حدِّ اتصالها بضوء أفكار الشاعر, الطالع إلى دنيا الحبر من بيئة كلّ معادلاتها تسودها عفوية النبؤة والاجتهاد اللغوي..
منذ 1947 علي أحمد سعيد أولاً (أدونيس) لاحقاً يبتكر أسلوباً رائداً للسَّفر إلى الضوء,وبعد ذاك يعيش ضوءاً مع الضوء, وقصيدةً رعويةً لايتعبُ صباحها من السهر مع معاني النهار, وأحمد سعيد والد أدونيس لم يكن جملة مضافة أو نكر ةً عند حافة المعرفة أو علامة ترقيم يمكن الاستغناء عنها عند وضوح الجملة المفيدة..
الراحل الكبير نديم محمد قال لي غير مرّةٍ:
في عام 1947 حضر أدونيس,و كان شاباً, إلى شرفة (سرايا جبلة) وأنشد قصيدةً بين يدي شكري القوتلي وحفل الاستقلال.. حينها كان يتقدّمه أبوه أحمد سعيد..
أدونيس ولد مع الضوء وجايل الدهشة التي لاتولد بسهولة.. وثابر على صداقته العميقة مع الضوء الذي هو كون الفكر واللغة الشيخة التي تحتاج محبين كباراً, لتعود إلى صباها..
هو محبٌّ كبير يستدرج اللغة إلى أقاصي الدلالة, وبحنكة المفتون ينفض عنها الأسى, ويعيد إلى كلِّ حرف بهاء السطوع.. ويمجِّد ببراعة عالية فتنة الخفايا, فتطلع كأشرعة المراعي الصاعدة إلى وجع الظهيرة والمسافات..
مهما اتهمت تطلعاته وطموحاته, وتجاسر عليه محبوه وكارهوه والكبار والصغار, أدونيس كاهن حبر وثقافة عالية وحنون إلى حدِّ برق الأسئلة, وفاتحٌ لغوي مزدهر على مدى عمرٍ من السطوعات والرؤى والحوارات والآراء والقصائد والنقد والمقدمات..
جبلٌ على السفح.. قد يكون عنواناً لائقاً لمكان إقامته الصيفية أو الشتوية حين يعود إلى قريته قصابين التي بنى عند مبتداها وسفحها بيته العالي..
العالي يبني الأعالي والآخرون جيران التلال ليس أكثر..
أدونيس بّناءٌ عجيب, يُقوِّض الصدأ وأركان الركاكة وعلى هذه الأنقاض تنهض عمارات بلاغته , وتزدهر فتوحاته وحقول رؤاه.. ويؤسَّس ممالك وقرى ومدن دهشة يقصدها المحبون والصاعدون إلى فصاحة أشواقهم وحواكير الأماني والكلام البليغ.
الكتابة واللغة والثقافة العظيمة أساساتها وحيطانها الأساسية الحبّ والبلاغة البكر..
غير المحبين لايعرفون المفارق المؤدية إلى سطوعات الوجود والأفكار, فيضيعون العمر بعد العمر في ضلالات الصدأ والركام وضوضاء الانهدام الاعتيادي..
قديماً كان يزور قريتنا رجل أريحيُّ الرؤى ,والكرامات الجميلة تسير جنباً إلى جنب معه, حين يجيء يقول الرجال وتقول النساء: جاءت قرية بأكملها.. وفيما بعد عرفنا أن الرجل قريةٌ..
أدونيس قريةٌ ضوء أو هو القرى المدردرة على جبال الشمس, وهو بلدٌ واسع , جهاته أعراس الرؤى وسطوعات أفئدة الكلام الممهور بخاتم صبح وسطوعات التأملات والمثابرة ونضارة الهجس والكشف عن علة القلق وشفائها..
وهذا لايكون إلاّ للهاجسين المتورطين بأناقة الفكر والتأمل...
أخبرني أحد المهتمين وهو من أعضاء جمعية عاديات جبله: نزور أدونيس ونجالسه ونشعر برقة حضوره وبهجة أحاديثه..
وآخرون تحدثوا عن ذوقه الفنان في إخراج شكل بيته وجدرانه واللوحات المختارة المعلقة عليها .
المبدع قديس بهجات لايقدر على ابتكارها سواه.. وحطّاب يتطاول على يباسات المفردات بحثاً عن اخضرار مشرق وإدهاش محتمٍ بقدرة المبادهة وسرِّ الثمار الطازجة, ويحاول المواءمة الراقية بين هجسه الشعري والفكري والفني وبين يوميات عيشه وبقائه..
أدونيس من الفنانين المقبلين على فتنة اللغة من أعاليها, ومقبل على تكوينات الوجود اليومي والعائلي بشيء من شعرية روحه وفصاحاتها ..ولعله يداري توجهات الحضارة الغربية القوية ويداري نزعات القوة أملاً بعدم الصدام والتناحر الثقافي ..لكنَّ المداراة لاتفي بغرض الأمن والاستقرار, لأن تدميرية النزعات الغربية المجرمة لايقابلها إلا القوة والمقاومة..والفكر الذي بحجم الضوء لايقلُّ تحدياً وعناداً عن أقوى القوى وأقساها...