في تصريح مشترك، أكدت الدول الثلاث بأن تلك الخطوة اتخذت بدافع (حسن النية) بهدف إنقاذ الصفقة والعمل على تجنب انهيارها. لكن تفعيل تلك الآلية قد يفضي إلى الإخلال بواقع الاتفاقية التي تعيش في حالة من الاحتضار إلا في الأحوال التي تعمد بها أوروبا للدخول في محادثات مع كل من طهران وواشنطن على قدم المساواة.
لقد تخلت إدارة ترامب عن الصفقة النووية التي أطلق عليها تسمية (خطة العمل الشاملة المشتركة) في عام 2018. ومن ثم عمدت إلى فرض عقوبات صارمة على إيران، وشكلت تلك الخطوة الأحادية طعنة لروح الاتفاقية متعددة الأطراف التي بموجبها أتيح فرض قيود على البرنامج النووي الإيراني وإجراء مراقبة دولية صارمة لمنشآت إيران النووية مقابل التطبيع الاقتصادي.
بيد أنه نتيجة إخفاق الأطراف الأخرى (فرنسا، ألمانيا، بريطانيا، الاتحاد الأوروبي،) في إطالة عمر الاتفاق الاقتصادي عمدت إيران إلى ضرب صفح عن القيود التي فرضتها الصفقة مؤكدة أن تقليص المزايا الاقتصادية عليها سيقابل التزاماً أقل ببنود الاتفاق، ذلك المنطق الذي رفضه الأوروبيون.
وعلى الرغم من رفض إيران ظاهرياً الالتزام بالحدود النووية المسموح بها، إلا أنها لم تتبع حتى الآن خطوات تستحق قرع جرس الإنذار، مثل زيادة تخصيب اليورانيوم إلى 20% أو منع وصول المفتشين الدوليين.
لقد أُعدت آلية فض النزاع بهدف معالجة الخروقات التقنية للاتفاقية وليس لحل الأزمة السياسية التي خلقتها الولايات المتحدة جراء إلغائها للصفقة، ومن الصعوبة بمكان التكهن إن كانت هذه العملية ستمثل فرصة أفضل مما سبقها من المحادثات السياسية لحل الاتهامات المتبادلة بين الأطراف.
وبالتالي فإن اللجوء إلى تلك الآلية -التي تعد خياراً ناقشه الأوروبيون على مدى عدة أشهر-يعبر عن حالة القلق تحسباً انسحاب ايران من الاتفاقية ونظرياً، فإن عملية فض الخلاف تثبت ضرورة الإسراع في إجراء محادثات مع الإيرانيين، ومنع احتمال تكرار فرض عقوبات أممية (سبق وأن رفعتها الاتفاقية النووية) بحق إيران تفضي إلى إجهاض الجهود المبذولة.
لكن إن كانت هذه هي الخطة المعدة، فإنها تنطوي أيضاً على بعض المخاطر. وأحد الأسباب أنه في الحين الذي يؤكد به الأوروبيون في تصريحاتهم أنهم بذلوا مساع حثيثة لدعم (التجارة المشروعة مع إيران) فإن تلك المساعي لم تترجم إلى مزايا مالية عملية تحققها إيران.
إذ إنه لم يتحقق سوى النذر اليسير منذ تفعيل آلية إنستكس التي بموجبها يتم تجنب العقوبات الأميركية لتسهيل التجارة مع إيران. ومن وجهة نظر طهران فإن أوروبا ما زالت تطلب من إيران الوفاء الكامل بخطة العمل الشاملة المشتركة بينما لا تجني سوى القليل مقابل هذا الالتزام.
إن ما اتخذته أوروبا من قرار بشأن الاتفاقية قاد بالحوارات في الداخل الإيراني إلى مسالك تتعارض مع الرغبات الأوربية. إذ نجد أطرافاً إيرانية تدعو في كل خطوة تتخذها إيران إلى الزيادة من الإجراءات المجابهة للأوروبيين الأمر الذي قد يدفع بالموقعين على الاتفاقية لاتباع خطوات نحو تأييد إنهاء هذه الصفقة.
كما يشير الإيرانيون أيضاً إلى أن عودة العقوبات الأممية قد لا تقود بهم للتخلي عن اتفاقية العمل الشاملة المشتركة فحسب وإنما للانسحاب من اتفاقية حظر الانتشار النووي-تلك الخطوة التي من المرجح أن تشكل عقبة أمام المحادثات المستقبلية.
ومع ذلك، فإن آلية فض النزاع لا تزال قائمة، وينبغي على أوروبا العمل على ثلاثة مسارات متوازية.
المسار الأول ويكون مع الإيرانيين، إذ يجب على الأوروبيين التأكيد على نقطة أساسية في بيانهم المشترك ألا وهي أن لجوءهم إلى هذه الآلية ليس إلا وسيلة لتكثيف المحادثات الدبلوماسية.
والمسار الثاني يكون بين الدول الثلاث نفسها، إذ بإمكان فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة تكثيف الجهود للقيام بتفعيل أكبر لآلية إنستكس واتباع وسائل إضافية لتعزيز التجارة مع إيران الأمر الذي يتطلب درجة معينة من القبول الأميركي وتصميماً أوروبياً على مواجهة الضغوط الأميركية.
أما المسار الثالث فإنه في الحين الذي يُرجح به قيام واشنطن بمصادرة قرار فض النزاع وممارسة الضغوط على الأوروبيين بهدف عزل إيران بدرجة أكبر، يمكن للأوروبيين الإيضاح للأميركيين أنه على مدى سنتين تقريباً لم تُضعف السياسات القسرية إيران ولم تجعلها تستسلم وتذعن لاتفاقية نووية يرى الأميركيون أنها (أفضل).
ونافلة القول، فقد يكون قيام الدول الأوروبية بتفعيل آلية الحل وسيلة وبداية لتسريع الأزمة التي تبذل قصارى جهودها إلى منعها. وعند هذه المرحلة يتعين أن تكون أولوياتهم تمديد الإطار الزمني الذي توفره الآلية والسعي لإقناع إيران باستئناف الالتزام باتفاقية العمل الشاملة المشتركة مقابل إعفائها من العقوبات الاقتصادية، ولا يسعنا في هذا السياق سوى القول إن أياً من الموقعين على الاتفاقية النووية القائمة لا يكتنفه الشعور بالرضا التام بحقها، لكن في سائر الأحوال يجب البناء عليها للمضي قدماً بدلاً من الوقوف بانتظار انهيارها.