الحياة وضغوطاتها المتغيرة.. علي «س» صف سادس لم يبق له شيء في مدينته التي كان يسكنها سوى الذكريات العالقة في المخيلة مرسومة بوجه الأم والأب وإخوته الصغار بعدما أصبح منزله الدافئ في مهب الخراب والدمار..
سكن علي في الحدائق والخيم، وتنقل مرارا بين هذا المكان وذاك الحي، ورغم حجم الألم والتعب وفقدان معظم مقومات العيش وأجواء الدراسة .. أصرّ علي على الدراسة بجهده الشخصي ومساعدة الآخرين الذين تطوعوا لهكذا مهمات ..نجح إلى الصف السابع ومنها الثامن، ويحضر هذا العام للشهادة الإعدادية ..تذكر والدته خيرية «م»كيف أن ابنها كان قوي البنية لطيف المعشر هادئ الطباع مجتهدا وذكيا كانت تشعر أنه أكبر من عمره وسنه ..عمل علي في محل ميكانيك يوم ضاقت سبل الحياة بغالبية الشعب السوري، فوالده شبه عاجز بعد ما أكل الهم والمرض شرايين قوته وقدرته، ولم تعد لديه تلك الطاقة التي تمده بالصبر والعزيمة واستسلم للواقع ضعفه وقلة حيلته، توفي الوالد منذ خمسة أشهر ولم يتجاوز عمره الـ ٤٨ عاما تاركا وراءه صبياً وابنة لم يكملا ربيعا عمرهما بهناء ..أخذت الأم تبحث عن عمل يسد رمق الحاجة فقادها نصيبها إلى مشغل صغير للخياطة في أحد أحياء العاصمة دمشق، وهكذا شيئا فشيئا أخذت الأحوال تتتحسن بما يعينها على الاستمرار وكسب معركة الحياة المتبقية.
في الضفة الأخرى ثمة شقاء وعذاب نفسي من لون آخر مني به أبناء عائلة مؤلفة من ثلاث فتيات وأخ في المرحلة الابتدائية ليعيشوا حالة من التوتر والقلق المزري بين والديهما اللذين لم يقدّرا بشجارهما وشحنهما المستمر وحالة التهديد والوعيد بالانفصال وترك البيت وغيرها من الألفاظ السلبية أن أرواحا بينهما تسمع وترى وتتألم وتخاف من المجهول، ولاتدرك أبعاد الكثير مما يعلن عنه بين الأب والأم.
لقد انكسرت نوافذ المستقبل أمام أعينهم تقول «عايدة م»البنت الكبرى وطالبة الصف السادس حيث وصفت والديها بالزوجين «الغبيين» لأنهما لم يعرفا كيف يحبان بعضهما بعضا ويحافظا على أبنائهما الصغار الذين سيواجهون المتاعب الكثيرة، بتدخل الأقارب وغيرهما في حال افترقا وترك أحدهما المنزل.
في حين تقوم فاطمة -ح الطالبة الجامعية برعاية أُخوتها الصغار بعد وفاة والديهما بحادث سير مؤلم ..أصرت هذه الصبية طالبة الحقوق سنة ثالثة أن تقوم بدور الأب والأم بقدر ما تستطيع من رعاية واهتمام وتعليم كي ترتاح روح والديها اللذين كانا يغمرانهما بالعطف والحنان والمعاملة الحسنة كما تقول في دردشة معها، لذلك سوف ترد بعض جميلهما بأن تخوض تجربة الرعاية والاهتمام بعيني الأمومة وما تعنيه، إلى جانب هموم الدراسة والأعباء المنزلية.
أيضا تحدثت لي إحدى الأمهات عما تواجهه من ضغط نفسي وجسدي بعد رحلة عذاب مريرة خاضتها مع ابنها المتزوج وكنتها اللذين يتصارعان منذ سنوات بخلافات ومشكلات مختلفة لم تنفع معها كل التدخلات والنشاطات سواء من قبلنا نحن أهل الزوج، وحتى أهل الزوجة، حيث أصرت الزوجة على الانفصال بعد عشرين عاما من الشراكة الزوجية التي أثمرت عن إنجاب ثلاثة أولاد، هم اليوم في مهب الحيرة بين رعاية الأب الذي يعمل في السلك العسكري ولا وقت كافياً لديه في هذه الظروف، وأم لم تعد تتحمل حسب وجهة نظرها أكثر من ذلك.ليجدوا أنفسهم في حضن الجدة التي تعبت بدورها من شقاء الحياة ومرارتها، لتجد نفسها تقوم بدور متثاقل في رعاية أحفادها الصغار الذين يحتاجون إلى همة وطاقة وقوة وقدرة على القيام بواجباتهم ..لقد بكت ام سلمان قهرا على عمر ضائع بين من ربّتهم سابقا وكبرتهم من أبناء وبنات، وأحفاد صغار يحصدون أسى وخيبات علاقة وشراكة زوجية فاشلة لم يكترث فيها الوالدان لطفولة معذبة تؤثر على صحتهم النفسية ونموهم الجسدي ونظرتهم للمستقبل ناهيك عن ثقتهم بالحياة.
أمام عرض ما تقدم تشير الدكتورة ابتسام فارس من كلية التربية جامعة دمشق من أن الأسرة تبقى دائما نواة المجتمع، وبناء المجتمع يرتبط بالنواة السليمة.وبسبب المشكلات المختلفة الاقتصادية والفكرية والاجتماعية التي تعصف بكيان الأسرة وتحرفها عن وظيفتها الأساسية في إيجاد مناخ للاستقرار والاطمئنان النفسي للأبناء وتربيتهم بطريقة صحيحة تأتي درجة الوعي الفردي والاجتماعي المتوافر لدى العائلة وكذلك درجة إدراك كل فرد فيها لمسؤولياته وقدرته على الالتزام بها، فالحفاظ على كيان الأسرة من التفكك والضياع أمر مهم وضرورة حتمية لبناء الجيل القادم.
وأكدت فارس أنه لا بد من غرس الأفكار القيّمة فيه وحمايته من الانزلاق والانحراف في حال حدوث الاضطرابات النفسية، وانعدام الإحساس بالأمان، فضياع أسرة اليوم يعني ضياع المجتمع فيما بعد، وإن كانت هناك بعض الظروف القاهرة فوق إرادة أفراد الأسرة كالتهجير نتيجة الحروب أو الأوضاع الاقتصادية المتردية فلابد أن تتغلب مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد من خلال التعاون والقدرة على امتصاص الغضب، ووضع أساسيات للحفاظ على وحدة الأسرة وتجاوز الأزمة بأقل الضرر المحتمل.
وأخيرا يمكن القول: هي تجارب مختلفة في قسوتها ..ضحاياها الأسرة والأبناء على السواء..ما يستدعي إيقاظ حالة الوعي وضمير فعل الإيثار وتغليب حالة المعروف الجمعي على الأنا الشخصي كما فعلت طالبة الجامعة، على عكس ما تقوم به بعض الأمهات اللواتي يتركن نوافذ منازلهن تعبث فيها رياح الخلافات دون ضماد مناسب لعلاج ما تفتق من جروح عائلية مختلفة.