لفكر لم يسدل الستار عن القضايا الشائكة، ساعياً أدونيس ليقول الحقيقة رغم الصمت القاتل المخيّم علينا الذي يخنقنا في شرنقة العادات والتقاليد..!
ببراعة الثائر على نفسه يتقن فن الكتابة، عازفاً على سيمفونية الكلمات ليصنع منها موسيقاه الخاصة، موسيقا متحررة من كل النوتات، ليتولى مهام القائد والجندي في معركة الوجود، محاولاً «علي أحمد سعيد إسبر» الذي اختار اسم أدونيس تيمناً بالآلهة الفينيقية، «أدون» وتعني «السيد» أن يكون سيداً يتربع على عرش الأبجدية، فراح يدوّن التاريخ مهندسا للحداثة بشذراته وومضاته وخواطره، ليتسع الحقل المعرفي لدينا ونحن نقرؤه، فلطالما كان نتاجه الفكري شفافاً واضحاً ومباشراً باعتراف الطبيعة، فهو من لون المتوسط بحبره القاني، وغنى للمهيار الدمشقي آلاف الأغنيات، وغازل عشتار اللغة فكان ابنها البار، ورتّل ترنيمات العشق لبلده فهو السوريّ ابن القصابين بنت جبلة، القرية المزدانة أشجاراً وارفة صخباً وحباً، هكذا رآها بعيني شاعرٍ حفظ الشعر القديم على يد والده، بيقظة متفحّص يحلل كل ما حوله، حتى صار دكتوراً في الفلسفة، وهو الاختصاص الأقرب إلى فكره وشغفه لقتل الظلام والظلمة، وإعادة التمحيص بقضايا الوجود الإنساني واكتشاف الماورائيات، ورغم انشغاله الفكري لم يتغلب فكره على عاطفته، ولم يقطع ابن سورية الحبل السريّ، فبعد أن غاب خمسين عاماً عنها، عاد إليها بقصيدة «تحولات الصقر» الذي يتمنى فيها أن يكون الشاعر الذي يغير الآجال، ويكون « نبوءة أو علامة..لصحت يا غمامة.. تكاثفي وامطري باسمي فوق الشام والفرات بالله يا غمامة علامة».
أدونيس كتابٌ مهما تصفحت أوراقه ستظل متعطشاً له، فهو ابن البحر الهادئ المتوازن الذي قال للكلمة كوني فكانت، فتنبأ للأعمى وكتب له، وأمره أن ينظر بيقظة البصيرة، كتب للمحيط الأسود كبحار راح ينقب عن كل ما هو ثمين عن الدين والتصوف والوطن والوجود، ليكلل مكتبتنا العربية بأكثر من ستين كتاباً يبصر النور ويضيء عقل قارئه إلى اللانهاية.
هكذا امتد أدونيس جسداً يسري دمه السوريّ حد التصوف، ومع هذا صار القضية، إنه أدونيس وهو على شرفات التسعين يطل نجماً ساطعاً يحكي قصة امتنانه للغة والحب اللذين صنعا منه عاشقاً منذ نعومة أظفاره، شاباً يدرك تماماً كيف تحبو اللغة على أرض الحصاد وتعلن قطاف التين والزيتون، فكانت الأرض أمه الأولى التي علمته العطاء وألف باء الهجاء، مرسلاً للعالم شعراً وأدباً تجاوز حدود الوطن العربي، فنال الأوسمة والجوائز بدءاً من بيروت مروراً إلى فرانكفورت وصولاً إلى إيطاليا، نعم لم يحصل على جائزة «نوبل» التي كان موعوداً بها، لكنه لم يعنه الحصول عليها! وهو أمر غير مستغرب من كاتب وأديب صدّر للعالم أبجديات اللغة والانفتاح والعتق والتحرر من كل ما يكبل الفكر والعقل، وهو اليوم يعتبر ببلاغته ولغته أهم شاعر عربي في عصرنا الحديث.
شعلة عشق «أدونيس» وكما عاهد نفسه وعاهدنا أنها لا تنطفئ في حياته، واذا انطفأت يوماً وهو على قيد الحياة ستنطفئ حياته، فهو لايزال حتى اليوم يستبسل من أجل الحب، فالحبّ عنده قضية وجود.