وحتى لكأن أقلامنا التي تكتب أو التي تتكلم هي مجرد أدوات تحسن الخدمة دون أن تصاب بأي انفعال على الواقع أو رد عليه, ولعل ذلك في أحد أخطر جوانبه هو الانحطاط والذي يعني في الجوهر فاصلتين, الاستكانة للواقع والوقوع في مطب الاستدراج لتبرير هذا الواقع, وعلى هذه الحيثية ينبعث السؤال المر دائماً لماذا لا يتشكل في الواقع العربي مصدر أو مجموعة بؤر على الأقل تنجز توصيف هذا الواقع بما فيه من تراجع وسلبية, لماذا يغيب الفكر والمفكر والاستحقاقات في أوجها والتحديات في أعلى مناسيبها والمخاطر تتسلل وتتغلغل ومع كل يوم تفتح ثغرة في الجسد القومي وتقتل خلايا حيوية من قضايانا القومية المصيرية.
هناك بالتأكيد عوامل خارجية عبر إرادات لها دورها الواضح منذ زمن بعيد, لكن الذي يعنينا هو مدى الاستفاقة على الواقع المر في الداخل العربي, ونسبة حضور الفكر القومي المؤسس ومساحة الدور الذي تقوم به النخب الفكرية والثقافية والسياسية والإعلامية, ولا يحتسب في هذا السياق نشاط محدود يظهر ثم يختفي على شكل فقاعة, ولا يحتسب أيضاً في هذا السياق نشاط شكلاني بروتوكولي يطلق الكلام دون أن يعني حقائقه وتبعاته. إن عزل هذه الأنشطة المؤقتة أو الموظفة سوف يسمح لنا برؤية الواقع السياسي والعام من زاوية أكثر اتساعاً وأبعد إحاطة وهذا هو المدخل إلى تكوين مصادر الموقف من الواقع العربي نفسه.
إن الكثيرين تستهويهم غواية التعبير الشارد عن سياقه والهارب من مسؤولياته لأن المهم هنا هو أن يغرق الواقع العربي المحاصر والمخترق بكميات مستفيضة هلامية من الكلام الذي لا وظيفة له سوى أن يملأ فراغ المكان والذهن وأن يصنع هذه الدرجة اللازمة لكي تقحم الأجيال عبرها في المساحات الجديدة التي لا تعني سوى العبثية والاستهلاك والانقلاب على الثوابت والتلطي خلف وسائل تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات, حتى لقد صرنا نشهد انقطاعاً محيراً وكأنما هناك حالة استبدال للمعالم الفكرية والاجتماعية والحضارية بطريقة تعبئة فراغات الحياة وإغراق المجموعات البشرية العربية بأدوات الإبهار ومواد الإشعاع المزيف التي تنتج الشكل الفاقع وتسحب من التداول صيغة المنهج العلمي والبحث العلمي وواقعية الانتماء وضرورات الحفاظ على المستقبل, ولسوف أعرض في هذا السياق إلى نقاط ثلاث هي من أصل الصورة المرة ولكنها مجرد جزء صغير من انهيار كبير, لكن هذه النقاط سوف يكون من شأنها أن تمنحنا مشروعية طرح المسألة على أنها أفكار في الواقع وليست كلاماً في الاستهلاك.
1- النقطة الأولى تتمثل في هذا المدى المتهاوي المتداخل والمتراكب في الوطن العربي, هناك صور سلبية بلا حدود وهناك تدهور وانفلاش لا ضفاف له, ومن الواضح أن هناك مسائل مثل التخلف في كل الميادين ثم هذه الوضعية الخطيرة حيث تستوطن الأزمة فينا دون أن تجد ما يوازيها من الرفض الأولي على الأقل, ومن الواضح أن هذه الملامح تستغرق منا الوصف والتوصيف لكنها لا تجد طريقها إلى الفكر المؤسس والإعلام الباني والثقافة المؤثرة, أي أن درجة الانهيار في الواقع تعادلها درجة الضياع في الموقف من هذا الواقع, وهذا ما تريده بدقة المشاريع الخارجية وعملاؤها في الداخل, بحيث يكون لنا واقع منهار, مستدام للأزمة وانفعالات منمقة تصف ولا تحلل, تتداخل ولا تتدخل, تجهض شرط النضج في القاعدة الشعبية وتتغنى بالآلام وتزين وظيفتها بالتنكيت المضحك والمشهديات الطريفة ثم ينتهي الأمر مع المساء في أن يوقع محضر الجلسة وتقيد الجريمة ضد مجهول.
2- والنقطة الثانية هي هذا الانقطاع ما بين الفكر السياسي العربي والقضايا الأساسية التي تعارفنا على تسميتها بالثوابت والتي من عناوينها الوجود القومي العربي, التجربة السياسية الوحدوية, بناء الدولة القومية المعاصرة, حقائق الصراع العربي الصهيوني ومسائل دور الإنسان في ذاته وواقعه وتفاعلاته مع المناخ العالمي السريع والمتسارع, هذه المصطلحات نسميها الثوابت تحت وطأة الرغبة في الحفاظ على وجودنا, وفي أفق التخوف من الآتي الأكثر فظاعة وتخريباً.
لكن هذه الثوابت في أصلها هي مصادر الحياة العربية بما يوازي وحدة هذه المصادر مع كل أمم الدنيا وشعوب الأرض, هذه ليست مفردات عربية في الهوية, هي عناوين كل البشر. هل هناك في هذا العالم اليوم من يعادي كيانه الكبير ويستدعي الأجنبي ويستقوي به ويكرس الفساد والاستهلاك ويقبل التبعية في كل شيء?
هل هناك أمة من الأمم المعاصرة تنازلت عن مجرد جزيرة يقول التاريخ إنها كانت تملكها? كيف يكون للعرب أعني لبعض نخبهم الثقافية والفكرية والحزبية هذا الدور المتخصص في دفن الثوابت القومية على هذا النحو والتبشير المبهم المشبوه بالعولمة والنزعة الاستهلاكية وتغطية ذلك بمصطلحات مثل سقوط الاتجاه القومي, وسقوط الاتجاه الاشتراكي وسقوط الاتجاه الإسلامي, وبالمقابل نمو التبعية والتبشير بالدولة القطرية حتى ولو كانت شمعة واحدة تكفي لإنارتها كما قال ذات مرة نزار قباني, إن الأمر هنا ليس مجرد انحياز أو انقلاب, هو أكثر من ذلك, هو تزوير للحقائق وتسويق لمنطق مستحدث أي أنها عملية تبديلية متعمدة, بحيث تلغى ثوابتنا ونتحول إلى قطعان وكميات بشرية موظفين ببلادة وتثاؤب في مستحدثات يراد لها أن تكون هي الثوابت, وأنا في هذا السياق أضع الإشارة والتأشير ليس أكثر.
إنها مجرد عناوين مرة ومع الاستمرار والتكرار صارت ذات حضور عادي في وجودنا وكان أكثر الناس سعادة بهذه الظاهرة هم تجار المواقف وأصحاب السفسطات الفكرية والثقافية وكان الأكثر سعادة فيها هو النظام السياسي العربي الذي احتضن باليد اليمنى لحظة الانهيار وداعب باليسرى أوهام وحماقات ذلك الخط الممتد من الجرح إلى الغيبوبة والذي تتكون مادته من أفكار عبثية مستوردة أو مختلفة ومن أنصاف كتاب ومثقفين عضوا على ثيابهم بأسنانهم وهرولوا بلا وعي إلى الحصة المحصوصة والفتات الذي طالما لوحت به قوى الاستبداد والظلام والسيطرة.
3-وفي النقطة الثالثة تبرز قصة رد الفعل الفكري والثقافي والإعلامي من حيث ماهيتها وجوهرها, أولاً من حيث دورها ووظيفتها ثانياً, ومن حيث حجمها واستمرارها ثالثاً, وهنا تفرض الوقائع مستوى آخر من الضياع لأن التموت الحقيقي في حياة الشعوب لا يقاس بالسيطرة الخارجية أو بدرجة الإرهاب الداخلي وإنما يقاس بالجنازة المزدوجة في نعش واحد للفعل ورد الفعل عليه. والآخرون ينتظرون هذه اللحظة ليتعرفوا إلى درجة الاستسلام في الواقع العربي, والآخرون مرعوبون دوماً مهما كبرت أدوات سيطرتهم إذا ما كان بعض الفعل قائماً في الوطن العربي وكل رد الفعل موجوداً في هذا الوطن, وهذه المعادلة المصيرية والصعبة ليست عملاً مجانياً وليست تعبيراً مصطنعاً بطريقة أداء الواجب بصورة عابرة, هنا تكمن الحقيقة بمعناها ومبناها معاً ويظهر دور الفكر والمفكرين والثقافة والمثقفين والإعلام والإعلاميين, وهذا الدور هو القادر على استنهاض عوامل الوعي وبث التأثير الحي في الوسط الشعبي وهو الذي يملك خاصية تنظيم آليات ووقائع الرد على العدو الخارجي وامتداداته في الداخل العربي, وشرط الديمومة والمواظبة.
هذه هي أبرز السمات في دور الفكر والثقافة والإعلام, فالمسألة تتصل بالموقف الكلي الشامل وليس بمجرد أداء الواجب أو رفع العتب أو اختيار ما لا يؤذي وما لا يؤدي إلى الحرمان من لقمة العيش أو الدخول في الزنزانات الجاهزة.