ولعل فرادته تكمن هنا, أي في ذلك النسيج المتعدد المكون لشخصية سوف تبدو إشكالية بامتياز, مضافاً إليها بالطبع ماتفتقت عنه المخيلة (الكاموية) من تأملات خرجت من المتن المسرحي والروائي بخصوصيتها الفلسفية الوجودية, كمسرح أفكار طليقة تبحث في الماهية الإنسانية بمنهجٍ سماته الارتياب والتحفظ المهذب والسخرية من الشروط القاسية التي تختطف (الإنسانية) في قوانين وأنساق, لتبدو على السطح تماماً كبرى إشكاليات كامو: الموت والحياة, اللذان يقاربهما -كامو- بطريقته التأملية- الفلسفية, تستعيد الفلسفة بعض رهاناتها التي وجدت لدى هنري لوفيفر وهو يشرح أفكار سقراط وأفلاطون وهراقليطس.
ولد كامو في مدينة موندوفي الجزائر من أب مزارع وأم من أصل إسباني. وأتيح له فيما بعد أن يتجول في إيطاليا والنمسا وتشيكوسلوفاكيا, باحثاً عن المكان, لكنه المكان الفلسفي, ليضع أعماله اللافتة (أفراح) عام ,1938 ومن ثم الغريب وكاليغولا وحالة حصار والعادلون وسواهم.
ما بين المقصلة وأعراس, ما يشي بدلالة مفتوحة على الأغلب, بالحياة التي وجدت لتعاش, المستلة من براثن موت بالضرورة, إلى حياة قد نعيشها مصادفة ونستمر بها, رغم يقين الفناء - سعادة فانية بلغة كامو نفسه. تمهيد ذكي ليصّعد ذلك الرائي هواجسه مكتوبة في محاولات يصّر عليها هو, لتفيض بتلك الرؤية, أي وعي الموت على نحو مؤلم وعنيف, وفي ذلك الأفق سيدفع كامو بصورة تضيف إلى مخيله الذاتي (التآلف بين اليد والأزهار) يسميه التفاهم الحبي بين الأرض والإنسان وسيتخذه (ديناً) له, أمام عنف المتخيل والواقعي -المقصلة- هو بالتأكيد لا ينزع إلى كتابة تاريخها, بل نفيها لفساد حيلتها بتوكيد العبرة, لا يدافع عن مجرم بقدر ما يناقش طريقة الموت في ما يسميه بالطقس البدائي, فخارج الجريمة والعقاب تنتصب فلسفة كامو لإلغاء عقوبة الإعدام, سبقه آرثر كوستلر في شنّ حملة صحفية للمطالبة بإلغائها في إنكلترا, تقول فلسفته بأنه ينبغي أن تواجه المظاهر المنفرة لوضعنا البشري بالصمت, يضيف كامو, لكن حين يسهم الصمت, أو حيل اللغة في الإبقاء على استغلال يجب أن يتدارك..
فليس هناك من حل آخر إلا الكلام بوضوح. بمعنى أن عقوبة الموت هي عذاب لا تحتمله مخيلته وفوضى كسلى يدينها عقله, ليسجل سؤالاً مغايراً, هل يجب أن تعتبر تلك العقوبة ضرورية كما هي عليه?! وهو يستعيد شهادات واعترافات, للمحكومين, ويشرح أن النازيين في بولونيا, يجهزون على الرهائن بشكل جماعي, كي يتجنبوا أن يصيح أولئك بعبارات التمرد والحرية!
فهو يستبطن نزعة إنسانية خالصة حينما يؤكد أن إماتة الإنسان دون إيلامه, خير من إيلامه دون إماتته, وأن الحرمان من الحياة هو أقصى عقوبة. ولهذا يبدو كامو مندهشاً لأعظم قصاص لا يقوم إلا على احتمال بسبب الجرائم التي كان يمكن أن تقع ولم تقع, وساخراً من القانون الغريب الذي يعرف الجريمة التي يسببها, ويجهل دوما الجريمة التي يمنعها, ومعجباً باليونانيين الأكثر إنسانية مع (سمّهم) يتركون للمحكوم عليهم حرية نسبية بإمكانية تأخير أو تعجيل ساعة موتهم. يحيلها كامو إلى عاطفة عنيفة جداً أو مبدأ قانون الثأر.(كي ننتهي من شريعة الثأر ينبغي أن نلاحظ أنه لا يمكن العمل بها بشكلها البدائي إلا بين فردين أحدهما بريء تماماً والأخر مذنب تماماً). ليجهر بأيديولوجيته الإنسانية فلا الأوهام عن الطيبة الطبيعية للإنسان, ولا الإيمان في عصر ذهبي قادم هي التي تفسر معارضته لعقوبة الموت, ولن يكون سلام دائم في قلوب الأفراد.. أو أخلاق المجتمع ما لم يوضع الموت خارج القانون.
يتطير كامو من نزعة التشاؤم ومن غريزة الموت إلى غريزة مضادة هي غريزة الحياة, الحياة التي يمتدحها بشاعرية الفكر والحزن في تيبازة وجميلة.. في الجزائر التي ولد فيها.. ثمة ما يوحي بغير رصد الفصول الربيع والصيف والريح, يلتقطه كامو وهو يسير إلى لقاء الحب, أتى إلى من يحبهم مهتدياً إلى إيقاعه العميق (ما أفقر من هم بحاجة إلى أساطير) يقول وهو يتفحص علم الحياة الصعب.. الرؤية والإيمان إزاء (تيبازة) التي تمنحه وقتاً للحياة, ووقتاً للشهادة على الحياة, إيقاع اتحاد الإنسان بالعزلة وصمت المدينة الميتة.
رغم حمى الهواجس بالموت: (اليقين الواعي بموت بلا أمل) وإن ما يدهشه حقاً هو فقر أفكارنا عن الموت مع أننا نشيطون جداً في قتل سائر المواضيع بحثاً). رائحة حكمة المدن الأخرى هي في فك ألغاز كتابة العالم ليستعيد البراءة والحقيقة, حيث أن رعبه من الموت يكمن في غيرته على الحياة كما يقول.. ويضيف إلى حبه سرية يكتبها بسحر المعنى المختلف بانخطافه إلى صيف الجزائر ليبوح بهواجس النقيضين أمام الحجارة والأجساد والنجوم وثروات الصيف المضادة: السأم والصمت, بكل إشاراته ونداءاته السرية كي ترتبط الجزائر في نفسه إلى حد كبير الجزائر ليست كباريس أو براغ أو فلورنسا, ليقول: ما الأبدية إن لم تكن ما سيستمر بعد موتي? سؤال, ينتقل بين حكاية الربيع وصور الموت التي لا تنفصل عن الحياة, بل فلسفة الجسد والروح بكليتها وما تعطيه من دروس باذخة وأمثولات العيش نفياً للرضوخ لا سيما الدرس الذي تعلمه في صيف الجزائر: ما هو أفجع من الألم.. يعني حياة إنسان سعيد,.. وعندما يتحدث كامو عن الصحراء, فهو يتحدث عن صحراء مختلفة عظيمة ليست صحراء أخرى, يقودنا إلى جغرافيا لصحراء معينة »صحراء فريدة لا يشعر بها إلا من كان قادراً على الحياة دون أن يروي ظمأه بسراب ماء أبداً , وآنذاك فقط تعمر هذه الصحراء بمياه السعادة الحية) فأمثولات كامو, هي في ذلك التماهي ما بين الحب والتمرد, التمرد والرضوح, الكآبة والسعادة, طقوس النسيان.. الحب والفناء فهي ليست تأملات عقل بارد, وإنما استعارة تحتفي شاعرية الأمكنة (فلورنسة- إيطاليا- الجزائر) لتخفي حقيقة ما لعلها لعنة الروح على حساب الأمل, تماماً كشخصيات لوحات الرسامين التوسكانيين, ذات الوجوه البارزة بعظامها وحرارة دمها.وما بين المقصلة وأعراس, تنتصب »شمس شارقة في مقابل شمس غاربة) محاولات تقول بالمصير, القدر والكفاية, تلك الوجوه الأخيرة لأبطاله في الغريب والإنسان التمرد, وربما الطاعون.. لابداع »ميتات واعية)..
< أحمد علي هلال
المؤلف: ألبير كامو / الكتاب: المقصلة.. أعراس / المترجم: جورج طرابيشي / الناشر: المدى