وعدد الخريجين الجامعيين العاطلين عن العمل, وعدد سيارات التاكسي ومستخدميها, وعدد دافعي أقساط السيارات الجديدة التي انهمرت علينا من آسيا, بعد أن أعاد تسونامي أمواجه إلى بطن المحيط, وخلّف عدداً مخيفاً من الموتى الذين كانوا أيضاً من شأن مراكز الإحصاء, وعدد ضحايا المرور,
بل وعدد عمال النظافة في بلد ينتج من القمامة الظاهرة أكثر مما يستهلك من المواد (كيف هذا?) بتفكيك المواد المستهلكة المبالغ بها دون شك! وعدد الحدائق في مدن باتت تكتظ عمودياً بالبشر, وتتقلص أفقياً بالمساحات الخضراء, وعدد مستخدمي الهاتف الجوال (هذا المحتل الذي لا يعنيه موارد مقتنيه), وعدد السياح الذين دخلوا البلد.. وإلى ما لا نهاية من الموضوعات القابلة للإحصاء.
أعود إلى مبتدأ الكلام وفيه أنه لم يخطر ببال أحد خبراء الإحصاء أن يتسلى مثلاً, ويخرج من عالم الأرقام والأعداد المفروضة عليه (وهذا مناهض لذوي الميول الشاعرية والرومانسية) ويتظارف بإحصاء عدد المديرين في مؤسسات الدولة! حقاً كم من المديرين لدينا, وما حالهم ليس في مواقعهم التي تتفاوت في الأهمية والجدوى, بل في علاقتهم بالموظفين أولاً, وجموع البشر الذين يتعاملون مع المؤسسة ثانياً? لا شك أنهم يتفاوتون في الخصائص تفاوت الأرقام المذكورة أعلاه, المتروكة لضمائر من يحصيها, قبل أن تقدم إلينا, واقعاً, لا يمكن دحضه, خاصة أننا لا نتقن فن الإحصاء الدقيق, ولا نعرف شيئاً عنه حتى حين يتعلق الأمر بدخلنا المادي, وحلم الرفاهية المستحيل.
هناك علاقة شائكة جداً بين الموظف والمدير, بسبب ثقافتنا السائدة, فالموظف يعتبر نفسه دائماً وأبداً الابن المغبون من قبل أبيه المدير, المسؤول عن كسوته وطعامه, وفي مجتمع تعدد الزوجات, يُغبن أبناء الزوجة الأولى بالفعل لأنهم يغارون على الأب, ليس حباً به ولا توقاً للعواطف (التي تقل حاجتهم إليها عندما يكبرون) بل على الإرث الضائع, مستقبلاً, بينهم وبين أولاد المرأة الدخيلة على أمهم, في منتصف, أو أواخر عمرها!! وهناك المدير الذي كان زميلاً إلى ما قبل ساعات, فإذ بقرار علوي يحوله إلى مدير, تذهب معه أيام الود وتبادل الشكوى, والنميمة والمشاكسات, وتقاسم ثمن قهوة المؤسسة, الزهيد.
فترفضه النفس, تلقائياً, وتحوله إلى غريم مفاجئ باعتباره تخطى مضمار المنافسة, دون جهد يذكر, ونال الحظوة التي يستحقها غيره (ولو نال هذا الغير حظوة الإدارة لما تبدلت المشاعر السلبية تجاهه) وبالتالي امتلأ القلب بالحقد عليه, وبات يعامل كالجار البغيض, الذي يستحسن أن نكايده برمي القمامة في فناء بيته من الطوابق العليا, وعدم التعاون معه في خدمة مصالح البناء المشترك, ولأن المدير, في الواقع, ليس أباً إلا لأولاده في المنزل, وليس جاراً إلا في المؤسسة, حتى لو كان مكتبه في طابق أرضي, فإن الالتباس الحاصل في الحقل المهني أنتج علاقات, لا يمكن أن تبني مؤسسة ومنها التزلف والنفاق المشين (النفاق مشين دائماً), ومديح الظل العالي لأي شاغل لكرسي الإدارة (اقتباس الظل العالي من محمود درويش).
ورغم أن النفاق واضح ومكشوف, فإنه يفعل فعل الخمرة في مجلس منادمة السلطان, فهو يدير رأس الممدوح, ويزيد من عطاء المادح, ولا أحد يعترف بأن النفاق موهبة تشبه في أحد جوابنها الشعر, الذي (يفجر) الألفاظ عند الشاعر ويرققها, ويجلوها, مخترعاً الفضائل, مثنياً على الأخطاء والخطايا, ضاحكاً حتى للنكتة السمجة, صامتاً حين يستوجب الكلام, وهو نفسه الذي يهيل, في غيبة المدير, أكواماً من الانتقادات والقدح والذم, ومنه أن تسلّم هذا المدير منصبه, سبب الخراب واليباب, ليس للمؤسسة وحدها, بل ولحياة ومنازل المرؤوسين, لأنه أحمق, أذناه واسعتان, جاهل بقوانين المؤسسة ونظامها الداخلي, قراراته مدمرة لكل موهبة, وصادق وغيور على المصلحة العامة, ولديه كراسي للمراجعين, وكرسي أعلى للدساسين!
حكايتي معك أيها المدير حكاية تعسّ في القلب كالنار تحت الرماد, فقد عرفتك بوجوه وزوايا مختلفة, وفي كل وجوهك أتيت مبتهجاً, حالماً, طموحاً كالساحر الذي يحول القرعة, بعصاه, إلى عربة مطهمة الجياد, وتأملتك, بشيء من الحزن, وأنت تفقد قواك السحرية شيئاً فشيئاً, وتتوه في التفاصيل (التي ليست إلا بيادر وقشّ ممتهني النفاق) وإذ لمست فيك النقاء والذكاء وحكمة اتخاذ القرار, استعصى عليّ أن أمدحك علناً, ليس لأنني أخشى, احتسابي مع المنافقين فحسب, بل لأنه من البديهي أن تكون كذلك بحكم المسؤولية, ولا ذنب لمؤسسة بأكملها لتتخلخل أساساتها بسبب سوء قدرها مع مديرها!!
ولكم يربكني ألا أقدم لك, علناً, المديح الذي تستحقه, أنت المجدد, الصارم, المنحاز إلى المصلحة العامة, الموهوب غريزياً في التعاطي مع الجماعة, لأن الإدارة لدينا ما زالت اجتهاداً شخصياً, ما دامت خارج التخصص كالطب والهندسة والصيدلة والأدب العربي والفلسفة, رغم أنها باتت من أخطر وأهم تخصصات العصر, أما إطراؤك, فهو أصعب من إطراء الشاعر على قصيدته والكاتب على روايته, والصديق على تعاطفه وقت الضيق, والممثل على إبداع دوره, والطالب على تفوقه, لأنك لست هذا ولا ذاك, رغم تأثيرك العظيم, الذي لا تدركه إلا حين تفكر بمديرك الأعلى, أو مديرك السابق (حين كنت مرؤوساً).
فوق المرارات التي يخلفها مدراء, وفوق الإنجازات التي كانت بعون بعضهم, أقول ما أسهل وأوسع نقد المدير, وما أصعب مديحه ما دام على كرسي الإدارة, ونحن نرفض الخروج من عقليتنا, التي لا تريد الفصل بين الشخصي جداً والعائلي جداً, وبين المؤسسة الكبرى التي فيها إسهام الفرد, حجر صغير في بناء متين كبير.