ويمكن اعتبار هذا المعرض الاستعادي الكبير الذي تقيمه الأمانة العامة للاحتفالية بالتعاون مع مديرية الآثار والمتاحف, خطوة اولى نأمل ان تتسع وتساهم بدور ايجابي في اخراج النتاج الابداعي التشكيلي من أروقة المستودعات , في سياق استعادة مدينة دمشق لدورها الطليعي في احتضان التجارب الريادية المنفتحة على تحولات وتداخلات ثقافة فنون العصر .
كما ننتظر ان تتواصل خطوات اخراج لوحات فنانينا من مستودعات متحف دمشق , ومستودعات مديرية الفنون الجميلة في وزارة الثقافة, لأن الفن التشكيلي السوري اليوم بأمس الحاجة لاستعادة ذاكرته ونفض غبار النسيان عن كنوزه الحضارية, التي اعطت الحركة التشكيلية السورية والعربية, منذ نهاية الاربعينات انطلاقة رائدة ومميزة.
فمن خلال هذا المعرض, يسعى متحف دمشق, لاستعادة دوره , في التعريف ببعض التجارب والمحطات والركائز, التي كونت بدايات ظهور نزعات الحداثة والتجديد في الفن السوري, حيث يعطي المعرض فكرة عن مدى فاعلية نتاج البعض من الفنانين الرواد والمخضرمين في المسار التشكيلي ( توفيق طارق, ميشيل كرشة صبحي شعيب , محمود جلال نصير شورى, ناظم الجعفري, فاتح المدرس, ادهم اسماعيل, محمود حماد, مروان قصاب باشي, نذير نبعة, لؤي كيالي, نعيم اسماعيل, الياس الزيات, ممدوح قشلان, كمال محيي الدين حسين , روبير ملكي, سامي برهان, برهان كركوتلي, نوبار صباغ , صلاح الناشف وغيرهم.
ملصق المعرض يشير الى عرض مختارات من مجموعة المتحف الوطني, وليس كل المجموعة التي قد تحتاج الى عدة صالات شاسعة لاستيعابها, لا سيما وان جذور الذاكرة التشكيلية السورية تشمل اسماء لا تزال شبه مغمورة وتمتد لأكثر من مئة سنة مضت.
تجد العين المستطلعة في هذا المعرض الاستعادي ايجابيات الاحاطة بأعمال كثيرة نشاهدها لأول مرة إلا ان الثغرة الاساسية التي وقع فيها الفريق الذي نظم المعرض فتكمن في اعادة عرض لوحات شاهدناها منذ سنوات طويلة, وكان من الافضل لو وضعت مكانها لوحات لفنانين من المرحلة ذاتها, او من مرحلة ما بعد جيل الستينات , وذلك لاعطاء الزائر فكرة أوسع واشمل عن تيارات وتوجهات الحركة التشكيلية السورية.
فالمشاهد السوري المتحفز لرؤية لوحات لم يشاهدها عن مراحل تطور حركتنا الفنية , يمر بسرعة أمام بعض اللوحات التي سبق وتوقف امامها مرات عديدة في الصالة ذاتها , وفي العديد من المجلات والمطبوعات التي صدرت خلال الخمسين سنة الماضية.
والمعرض رغم احاطته المرهفة بجوانب اساسية في تجارب كبار الفنانين الرواد. فهو في النهاية يظهر حالات التفاوت في المستويات على الصعد التشكيلية والابتكارية والتقنية, ويقدم الدليل القاطع على ان النقد التشكيلي في مراحل سابقة, كان مخادعاً ومزاجياً وانطباعيا , ويكفي في هذا الصدد القول :ان احدى لوحات ناظم الجعفري المعروضة هنا والموقعة في العام 1951 تؤكد انه من كبار رواد المدرسة الانطباعية في التشكيل السوري, وكان سباقاً في اعتماد اللمسات اللونية العاشقة لزهوة النور والضوء وعلى عكس ما اشاعه نقاد الأمس حين وضعوا تجربته عن جهل او خطأ في خانة التجارب الواقعية, وهذا ينطبق على العديد من الفنانين الراحلين الذين صنفهم النقد السوري في خانة التجارب الواقعية والكلاسيكية, مع انهم تعاطفوا في العديد من لوحاتهم مع معطيات اللمسة اللونية العفوية القادمة من تأملات أعمال كبار فناني المدارس الاوروبية الحديثة, ولا سيما المدرسة الانطباعية والتعبيرية والواقعية الجديدة, وبذلك ساهموا الى حد بعيد في ظهور هذه الاتجاهات , في حركتنا الفنية السورية المعاصرة. فتوفيق طارق (1875-1940) على سبيل المثال قدم ماله علاقة بالواقعية التسجيلية, وما هو قادم من تأملات الاعمال الانطباعية , وهذا يبرز بشكل واضح في بعض لوحاته والشيء نفسه ينطبق على سعيد تحسين ( 1904-1985) الذي اهتم بالمواضيع التاريخية والسياسية والاجتماعية, وقدمها ضمن رؤية خيالية ورمزية, حيث نجد له بعض اللوحات الواقعية والانطباعية. كما قدم صبحي شعيب (1909-1974) ومنذ مطلع النصف الثاني من القرن الماضي, لوحات متحررة من النزعة التصويرية الواقعية والكلاسيكية, وهذا يبرز بشكل واضح في بعض لوحاته المعروضة هنا والقريبة في معالجتها اللونية من اجواء لوحات (فان غوغ).
كما ان معظم لوحات زهير الصبان ( 1913-1987) تميل الى الاتجاه الانطباعي لجهة اضفاء المزيد من العفوية والنورانية على لمسات اللون التلقائية.
حتى ان العديد من الفنانين الرواد الذين اشتهروا بنزعتهم التصويرية, القريبة من اجواء الصورة الفوتوغرافية ( نجد لوحات لبعضهم في هذا المعرض) هؤلاء تعاطفوا في بعض مراحلهم الفنية مع مظاهر الرسم العفوي, وقدموا بعض المناظر الطبيعية, ضمن رؤية متفاوتة ما بين الانطباعية والواقعية.
هذه الحقائق المقروءة في العديد من الاعمال المعروضة هنا, تضع الناقد المتقصي امام اشكاليات كبيرة , وذلك لأن اعادة كتابة تاريخ تطور الفن الحديث في سورية, يحتاج الى دراسات موسعة, لمعرفة الاسماء الحقيقية, التي ساهمت في اطلاق موجة الحداثة , وادراك مدى تأثير كل تجربة على حدة, على الاجيال الفنية المتعاقبة, حتى لا يبقى تاريخ حركتنا الفنية, اسير المزاجيات والمواقف الخاطئة المسبقة, التي تستشف على سبيل المثال جذور الانطباعية السورية من تجربتي ميشيل كرشة ونصير شورى فقط مع انها كانت وكما تؤكد العديد من الاعمال المعروضة, ابداعاً مشتركا لمجموعة من الفنانين الرواد, هذه الاشكاليات تزيد من حالات المراوحة والالتباس, في خطوات تسجيل ملامح بدايات ظهور نزعات التجديد والحداثة في الفن التشكيلي السوري المعاصر.