وشاعر (ذرهم يفعلوا ما يحلو لهم). لقد علمنا بتعجب شديد بأن أحد خبرائنا الاكثر ليبرالية قد اتخذ من اسمه شعاراً, فعندما نبحث في فكر مؤلف كتاب (محاولات) عما يمكن ان يمثله كرمز( لمدرسة) تبجل مثالا من بين آلاف, ترك كل هيئة تشجع التعددية في الصحافة. هو الذي يقول عن الآراء بأن ( ميزتها الاكثر عالمية هي في تنوعها)..
حقاً إن مؤلفه ( محاولات ) واسع ومنوع, يقدم للقارئ مرآة, وعند البحث عن مونتين, نجد فيه أولا صورته. كذلك فإن تأليف الكتاب خادع .نعلم انه وبحسب مؤلفه, مونتين, قد تمت كتابته على عدة مراحل وفترات زمنية متباعدة على عكس كل كتاب علمي, نجده ينبض بالحرية والتلقائية ويعكس صورة الفكر لدى الكاتب الذي يقول بتواضع :(أقترح تخيلات مترددة وبلا شكل محدد) . لقد بين النقد التقليدي من خلال احتجاجاته تجلي فكر دقيق في تطوره.
ومن خلال الطبعات المتتالية منذ أن نشر كتابه ( محاولات) لأول مرة في عام 1580 , ازداد حجم فصوله, الى ان صدر كتاب ثالث ليتم ما أجري من توسيع على الكتابين الأولين, فإذا كان المشروع المعلن في مؤلفه الشهير والمعنون( إنني مادة كتابي) هو وصف لشخصيته بالذات, فهو يمثل أيضاً مجموعة آراء تستند الى سلطة مزدوجة للقدماء وللتجربة الشخصية, أما الفصول فنجدها غير منتظمة ظاهريا, وكأنها تعبر عن( قفزات وطفرات) فكر الكاتب , ومع ذلك تظهر من خلال قراءتها على انها مبنية كالدفاع عن آراء او قضية او شخص, وأحياناً تدعمها أقوال عديدة ومسهبة من الأمثال التاريخية والشواهد المعاصرة, ويسعدنا ان نجد فيها دقة حجج مقرر مجلس العرائض لبرلمان بوردو. اما الانتظام فلا يتبع التسلسل الزمني للكتابة, اذ يقارب الموضوع وكأنه يحتل مكاناً في موقع وهو لا يترك مخرجاً لمعارضة. واذا تظاهر الكاتب بالمرح عندما يقول :(أتحدث الى الورق وكأني ألتقي مع أول شخص) وذلك للتأكيد على استقلالية فكره بمواجهة التكلف الذي يهاجمه لدى العلم الاكاديمي.
بالتأكيد, يدرك جيدا ان يضبط معرفته ومتانة الجدلية, لكنه يدافع عن مقاربة واقعية وحرة للطبيعة البشرية عندما يقول( الآخرون يشكلون الانسان, أما انا فإنني فأصفه).
من هنا نخلص الى القول أن كتاب(محاولات) هو بحث عن مونتين, الموضوع والكاتب إنه كتاب علمي لأنه ينطوي على افضل معارفه ( إن كل انسان يحمل معه المعاناة الانسانية الكاملة) لهذا وبعد اكتشاف المتشككين, أخذ يرتاب برأيه, وكذلك برأي الآخر. ويبين النسبة كتلك المتعلقة بالأخلاق في فصول شهيرة( آكلي لحوم البشر), (القوارب) التي تذكر غالباً بمناسبة مرور 500 عام على اكتشاف كولومبوس ومن الجدير بالذكر ان كل مؤلفه يهدف الى خلق ظروف اعادة فتح, ليس فقط للعقائد, لكن لعجز الجسد والفكر الانساني وحرية التفكير وإذ يقول :(لم أصنع كتابي انما كتابي هو الذي صنعني).
ومع البين بين ودرجة (الاعتدال) الى أقسى الحروب الدينية, يؤكد مونتين قيمة الحياة الانسانية أو يناهض التعذيب لانتزاع الاعتراف. ولا توجد هنا مفارقة: إذ ان اضعاف مونتين كمنظر للوضع الراهن لا معنى له , كذلك استرجاعه كمفكر للهرم الفكري. من أي منظور نتناوله فإننا أمام معلم للحرية, الذي يتركنا وهو يقترح ذلك ( الحلم المتواضع والمجنون) كما يقول الآخر: (أن نعرف أن نتمتع بذاتنا بصدق).