ويضع كل ذلك مسرحاً ينفذ منه إلى نقد هذه الدولة الأجنبية ونقد موظفيها المختلفين, نقداً فيه مرارة وخبثاً, وفيه تنفيس عما قد يقع على الناس من ظلم في هذه العهود الإقطاعية الجائرة. ولم يكن أحد في عصره إلا ويخشى معرة لسانه, وكان يقف في الأسواق يصيح بسبه وهجائه والناس يجتمعون ويضحكون, لم يكن يسب ويهجو بلفظ قبيح إنما كان ينهر ويزجر, مستخدماً آية قرآنية أو حديثاً أو سجعاً يولده لوقته.
ويسوق ذلك بشيء من التخليط, فيضحك, إذ يصبح مظهراً للشعوذة وتشويش الفكر, ويقول السذج مجنون, ويقول العقلاء بل جريء لا يموه ولا يمخرق, يواجه الحق ويذيعه دون تدليس أو تزييف.
وطبيعي أنه لم يكن يقصد إلى الاضحاك, فهو مؤمن بما يقول في الإخشيد وغيره, وهو جد كل الجد, ومن هنا يكون الضحك, لأنه يخالف مألوف الناس, إذ يرونه يعمد إلى سب أميرهم ورؤسائهم فيتجمعون حوله يشاهدونه, وكأنهم أمام مسرح هزلي.
فمن ذلك أنه كان يطوف على حماره يوم جمعة, فرأى الناس محتشدين لرؤية موكب الإخشيد أثناء مروره إلى الصلاة فتوسط الجموع وصاح :(ماهذه الأشباح الواقفة, والتماثيل العاكفة, سلطت عليهم قاصفة, يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة, وتغلى لهم قلوبهم واجفة? فقال له الرجل:(هو الإخشيد ينزل إلى الصلاة) فقال :(هذا الأصلع البطين, المسمن البدين, قطع الله منه الوتين, ولا سلك به ذات اليمين! أما كان يكفيه صاحب ولا صاحبان ولا حاجب ولا حاجبان, ولا تابع ولا تابعان? لا قبل الله له صلاة, ولا قرب له زكاة, وعمر بجثته الفلاة).
ولا ريب في أن هذا الهجوم على الإخشيد كان يحدث تنفيساً عن الحرج في نفوس سامعيه, فيضحكون ويغرقون في الضحك.