وفي الألف الثاني قبل الميلاد سيطرت ثلاثة ممالك على حوض الفرات، فكانت مملكة مالي على الضفة اليمين ومملكة إيبلا بقلب البادية ومملكة إيمار سيطرت على منعطف النهر شرقاً.
حملت مملكة إيمار عدة تسميات عبر التاريخ أقدمها إيمار، ويعود هذا الاسم إلى نصوص قديمة تعود للألفين الثاني والثالث قبل الميلاد، وفي العصر الروماني البيزنطي كان اسمها بار باليوس، وفي العصر الإسلامي كان اسمها بالس، وفي العصر العثماني كان اسمها «أسكي مسكنة» أي المسكنة العتيقة، واليوم سميت اختصاراً «مسكنة».
كان لموقعها المميز الكثير من المنافع والمصاعب على هذه المملكة، إذ كانت من أهم الموانئ على نهر الفرات وشكلت صلة وصل بين الجزيرة والساحل السوري وكانت طريقاً للقوافل التجارية بالطريق البري، ما جعلها موقعاً متنازعاً عليه بين الممالك التي كانت تحاول السيطرة على هذه المملكة التي اتخذت من موقعها منارة سياسية واقتصادية وحضارية. وقد ذكرها ياقوت الحموي بكتابه معجم البلاد بأنها «قرية لم تزل» وذكرها ابن شداد بكتابه «الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة» حيث قال عنها إنها كانت تتبع للملك الظاهر غازي صاحب حلب ثم انتقلت لعمه الملك عادل أبي بكر، وقد أقام العادل فيها مئذنة جميلة من الآجر مثمنة الشكل تحوي شريطاً كتابياً يحمل اسمه. وفي نهاية العهد الأيوبي دمرها هولاكو بعد احتلاله بغداد عام 1260م.
أسماء المدن والملوك
تفيدنا العديد من النصوص بأسماء مدن قرب إيمار وعلى طريقها مثل: ماني، ادني، سادو، إضافة لقائمة أسماء الملوك والشخصيات الدينية والرسمية، ومن ملوكها: انزي دمو، إب دامو، أشجي دامو، نان دامو، والملكة تيشالم التي حكمت بالوصاية عن ابنها، وقد تكرر اسمها عشرات المرات في نصوص مكتشفة بمملكة إيبلا في مبادلات تجارية ومراسلات تذكر علاقة بين ملك إيبلا وهذه الملكة التي على ما يبدو تنتمي للأسرة المالكة بإيبلا.
وقد أكدت الوثائق المكتشفة بإيمار وجود حكومة ممثلة بالملك ووجود أكثر من سلطة بهذه الحكومة منها سلطة المعبد ورجال الدين وموظفين إداريين وطبقة نبلاء وشيوخ وعامة الشعب، يتأكد من خلال الدراسات أن مملكة إيمار خضعت للحكم الملكي ما يقارب الثمانون عاماً، كما ذكرت هذه المملكة بنصوص كتبت على جدران معبد الكرنك بمدينة الأقصر المصرية وهو معبد مخصص للإله آمون.
تغير منسوب المياه على شط الفرات وارتفع ما تسبب بهدم بقايا المدينة وغمرها بالكامل، بعد ذلك وبالصدفة بينما كان أحد المزارعين يحرث حقله قرب موقع مملكة إيمار إذ عثر على بعض الأواني الأثرية، ومن هنا كانت بداية الكشف عن هذه المملكة التي ما تزال أكثر من نصف أسرارها في سبات نهر الفرات العظيم الذي لم يبح لليوم بكل حضارات الشعوب التي جاورته وابتلعها.
نصوص مسمارية
وأثناء الحملة الدولية لإنقاذ آثار حوض الفرات، اتفق الجانبان السوري والفرنسي على إجراء بحوث خارج أسوار المدينة القديمة ومنذ الأسبوع الأول بدأت الاكتشافات الهامة والمفاجئة تظهر من خلال نصوص مسمارية تأرخت في عصر البرونز واكتشاف الرقيم المسماري كان حافزاً لتشكيل بعثة تجري أسباراً جديدة حالفهم فيها الحظ بعثورهم على جرة فخارية احتوت على أربعة عشر رقيماً مسمارياً محفوظاً ضمن أحد الجدران. ومن خلالها اتضحت بعض الصور التي بينت بعضاً من علاقات وطبيعة المرحلة الإنسانية المهمة التي مهدت لقيام هذه المملكة، إذ بينت وجود مدافن ومعابد ومخططات ضمن قدس الأقداس مجهز بدرجات ويحوي ثلاث حجرات صغيرة هن الآلهة المعروفة بالمدينة، بعل ودجن وعشتار، وقد أشارت إليها النصوص بتقديم القرابين وطقوس جنائزية. وفي العصور الكلاسيكية كان معبد الآلهة عتر غاتيس يشكل مقصداً للحج في تلك الحقبة.
وفي عهد الربة عشتار عثر على رقيم مسماري، ولقى من البرونز مثل تمثال رب غير معروف وآخر لثور ضخم، ورؤوس لسهام ومجموعة من خرز بلوري وقطع من العاج، ولاحظ العلماء وجود طبقة سميكة جداً من الرماد ما يدل على ضخامة الحريق الذي التهم المعبد المذكور.
كانت الصفة الغالبة على التنقيبات في إيمار إنقاذية وسريعة ففي أربع سنوات كشفت البعثة الفرنسية عن أكثر من ألف وخمسمائة رقيم دونت فيها نصوص بالكتابة المسمارية بعدة لغات منها السومرية والآكادية والحورية والحثية تعود للفترة بين 1320 ق م حتى دمار المملكة وما زال الأرشيف الملكي قيد التنقيب إذ لم يكتشف حتى الآن، وكان القسم الأكبر من المكتشفات يعود إلى مكتبة في أحد المعابد يملكها عراف المدينة. ومعظم موضوعات اللوحات والنصوص في إيمار اشتملت على عدة مواضيع أهمها: محفوظات إدارية واقتصادية ومحفوظات دينية ومحفوظات معجمية وأخرى سياسية وأدبية إضافة إلى نصوص تعويذات ورسائل ووصايا.
حكومة متكاملة
وكان للشؤون الإدارية والاقتصادية النصيب الأكبر من المحفوظات وهي عبارة عن عقود بيع وشراء ومحددة بحدود واضحة تطابق عقودنا الحالية في العصر الراهن من أسماء المشترين والباعة وأوصاف العقار وأسماء الشهود والأختام الرسمية وعقود رهن وقروض وتوزيع إرث وعقود التبني والوصاية ما يدل على وجود حكومة متكاملة في إيمار من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية وأيضاً أفادت هذه المعلومات بمعرفة أسماء تلك الحقبة وتوزع المملكة الجغرافي ومنها نموذج رقيم في أمريكا اليوم وهو نوع سوري سجل هذا اللوح صفقة تجارية حقيقية متكاملة من حيث وصف المكان بحدوده واسم البائع والشاري وصفات العقار ومقدار السعر وعليه ختم رسمي.
وتكشف النصوص حالة الثراء التي كانت تتمتع بها العائلة الحاكمة وطرق التجارة النهرية بين بابل وإيمار.
أما المحفوظات الدينية فقد شكلت أرشيفاً عن المعتقدات الدينية في سوريا خلال النصف الثاني من الألف الثاني قبل الميلاد وأضيف أرشيف متكامل على أرشيف مملكة أوغاريت، وكانت نصوص الكهنوت في مملكة إيمار الشكل الوحيد من نوعه في الشرق، وتدور حول طقوس الهبات والنذور والأضاحي والشعائر الدينية واختيار الكاهنات لمعبد عشتار.
بلغ عدد النصوص 67 نصاً باللغة السومرية والآكادية وقد دونت بثمانية عشر مجلداً وتشمل أرقامها «537- 602» وهي محفوظة بمتحف التقاليد الشعبية بألمانيا عام 1975، وقد أعيد نشرها مضافاً إليها نصوص جديدة على يد باحثين يابانيين.
احتوت المحفوظات الأدبية على نصوص من ملحمة جلجامش وجدت بمسكنة وفيها حوار بين عشتار وجلجامش، كما وردت عدة نصوص أقرب للمسرحية كحوار بين شجرتي النخيل والأثل وأخرى فلسفية فيها تأملات الحياة والموت.
تماثيل تجسد المرأة
لم يكن لفن النحت دور كبير بإيمار حيث اقتصر على أشكال تمثل النساء والطيور والأشكال الهندسية وعثر على مجموعة من التماثيل البرونزية وأجزاء معدنية كالذهب والفضة داخل معبد إله العاصفة، وطغت الأدوات والتماثيل الطينية المشوية والتي وجدت بكميات كبيرة وأفادت بتنوعها ودراستها برسم خارطة للفن الإيماري الذي أعطى صورة محدثة للفن الفراتي وقد تميز بتجسيد الإله بالشكل البشري. وغالباً ما صورت التماثيل نساء عاريات وأذرعهن مطوية للصدر. وفي مسكنة اكتشفت ثلاثة تماثيل مثيرة للاهتمام بشكل خاص وهي عبارة عن منحوتات نافرة مرسومة أو مصبوبة لامرأة نصف عارية، وتتميز هذه التماثيل الثلاثة بأن قوالبها لم تظهر بأي تنقيب أي أن مشاغل الصنع لم تنقب بعد، وهذا النموذج يشترك مع تمثال واحد وهو مصري والذي لذلك الوقت كان نموذجاً خاصاً ومختلفاً تماماً.
والطريف وجود نماذج من فخار مستورد من قبرص أو من الأناضول، ما يؤكد وجود علاقات حضارية في فترة البرونز الحديث.
ولعل أهم نماذج عمرانية تم اكتشافها بهذه المملكة هي القصر الحيلاني المطل على الوادي ولفظة القصر الحيلاني تعني بيت النوافذ، إضافة للمئذنة المثمنة الآجرية والتي تعد نموذجاً إسلامياً، إضافة إلى بعض القبور، وقد ذكر شداد هذه المئذنة كمعلم ملكي في إيمار.
ولم يستمر التنقيب طويلاً ولم تأخذ هذه البقعة من التاريخ حقها في البحث حيث منعت المشاكل الطبوغرافية بهذه الأرض البعثات من الاستمرار فأصبحت عرضة للحفريات السرية والنهب المباح لتجار الآثار الذين نهبوا ما نهبوه، إذ جرى تهريب العديد من لوحات إيمار من قبل هؤلاء بشكل غير شرعي وهي محفوظة بمجموعات خارج سوريا وقد تم التعرف على قسم كبير منها أثناء ما نشرته بعض الدوريات والمجلات العلمية المتخصصة، قسم منها في اليابان وأمريكا وألمانيا وإسبانيا، كما نشرت البعثة الأثرية المجلد السادس الذي يضم النصوص الإيمارية بأربعة أجزاء قام بنشرها اللغوي دانييل آرنو، وقد ترجم للفرنسية وبقية النصوص تقوم الباحثة الفرنسية ي. لاروش بنشرها وسيقوم الإيطالي م.سيلفني بنشر النصوص الحورية.
حضارات مرت
وعربياً يقول عنها الباحث الدكتور الشهابي بمعجم المواقع الأثرية «هي مدينة مرت عليها حضارات متعاقبة وازدهرت في الألف الثاني قبل الميلاد عندما كان اسمها إيمار وكانت عقدة مواصلات بين الجزيرة وبلاد الشام، وقد كشفت التنقيبات الأثرية في الموقع عن بقايا مساكن وقصور ومعابد ومجموعة من الرقم المكتوبة باللغات الآكادية والسومرية والحورية ذات طابع اقتصادي وديني».
آخر الكلام
ووصولاً إلى العصر الراهن تعاني بقايا هذه المملكة من الإهمال والعبث فهي مشاع للكتابات والذكريات من زوار البحيرة أو نهر الفرات، رغم أهمية موقعها والذي يمكن لمديرية الآثار والمتاحف الحفاظ ولو جزئياً على ما تبقى، وترميم المئذنة الآجرية التي تعاني الهدم الجزئي أو يمكن حتى لوزارة السياحة استغلال الموقع وإقامة مشروع صغير كمنتزه أو كمتحف أو حتى محمية للآثار، فما نهب لم يوثق لكثرته ولعدم تقدير رموزه التي لو كانت أي قطعة مما نهب بأي دولة أخرى لكانت زارت متاحف العالم وعادت إلى أرضها التي أبدعتها. نحن مطالبون بوقفة أمام ما يحرق ويسلب فهناك اليوم تنظيم لهذا الخراب الذي من مصلحة أي سوري أن يقف في وجهه إكراماً لأسلافه. نحن امتداد هذه الحضارات السورية وجذورنا هي المستهدفة، فكل قطعة هي تاريخ، واحترامنا للتاريخ واجب.
المصادر:
بسام جاموس- مملكة إيمار في العصر البرونزي الحديث
عدنان البني- الحوليات الأثرية السورية
موقع الباحث ارنولد دانيل
موقع إيمار الخفاجي.