تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


المسارح الأثرية وأثرها في تنشيط الحركة الثقافية السورية الراهنة

ملحق ثقافي
2012/10/23
عبد الناصر حسو:يبدو أن المسارح الأثرية في سورية راعت الخصوصيات الحضارية والثقافية أثناء بنائها كما ذكر الدكتور خليل المقداد،

إذ تخضع هندستها المعمارية وزخرفتها وأعمدتها للخصوصية المحلية؛ حيث تتلاءم مع فضاءات الفرجة العربية «كالأسواق والساحات العامة وسط المدن» مسارح دائرية أو شبه دائرية في فضاءات مفتوحة، لتشمل مختلف جوانب الحياة الاجتماعية والثقافية التي تدل على غنى هذه الحضارة وتنوعها.‏

من ناحية أخرى إن وجود خمسين مسرحاً أثرياً في سورية من أصل 150 مسرحاً قديماً في العالم يعود إلى القرن الثاني والثالث الميلاديين، لا يشير إلى هذه الخصوصية فحسب، بل إلى درجة الرقي والسمو والتطور الثقافي والفني والاجتماعي والتفاعل الحضاري الذي كان يتمتع به الشعب السوري منذ ذلك الوقت.‏

تشهد هذه المسارح في عصرنا الحالي على رقي الشعب السوري في مراحل متعددة من التاريخ وشغفها بالثقافة الفنية والطقوس الدينية والاجتماعية بحيث استدعى بناء مسارح أثرية بهذه الضخامة والقدرة على استيعاب الجمهور بكافة شرائحه.‏

خمسون مسرحاً أثرياً‏

لن أتناول هنا جميع المسارح الأثرية الخمسين وما يهمني منها تلك المسارح التي تفتح أبوابها لاستقبال الأنشطة الثقافية والفنية الحديثة من عروض فلكلورية وتراثية وشعبية وفنية ومسرحية وراقصة وموسيقية وغنائية وعروض أزياء كونها تتناسب مع هذه المسارح الأثرية، وأترك الجانب التقني لتلك الآثار لخبرائها وعلمائها، ورغم تعدادها وانتشارها، هناك العديد منها دُمرت جزئياً بفعل الزمن وهي بحاجة إلى الترميم والتجهيز والاستثمار السياحي والثقافي الذي يصب لصالح الاقتصادي الوطني باعتبارها كنزاً وطنياً ثميناً والبعض ما تستقبل تظاهرات ثقافية تتطلب جمهوراً كبيراً، وأهم هذه المسارح أو الأوابد التاريخية الشامخة: مسرح بصرى الشام، مسرح أفاميا، مسرح تدمر الأثري، مسرح جبلة وخان أسعد باشا، رغم أنها لازالت تستجلب فرقاً فلكلورية/ شعبية محلية وعربية وأجنبية وفق عروضها بهدف إلقاء الضوء على ثقافات الشعوب كافة والتفاعل معها في إطار التحديث.‏

يدل وجود هذا العدد الكبير من المسارح على أنشطة ثقافية وفنية وفرجوية واجتماعية في إطار التظاهرات الرسمية والشعبية والدينية والوطنية بتأثير من الثقافة الرومانية التي سميت فيما بعد بالثقافة الهلنستية «مزيج من الثقافة الرومانية مع الثقافة المحلية» وإن كانت المراجع التاريخية لا تشير إلى أن لهذه المسارح استخدامات أخرى مثل حلبة الصراع بين الأسرى والوحوش الضارية أو بين الأسرى أنفسهم لانتهاك كرامة الإنسانية وسط تصفيق المتفرجين ورهاناتهم حول الفائز، كون المساحة التي تفصل بين المنصة والصالة كبيرة جداً تتسع لعدة أوركسترات. إلا أن جميع المراجع تشير إلى استخدامها كعروض مسرحية بالصيغة الأرسطية أو عروض فرجوية شعبية بالصيغة المحلية تستقطب أعضاء مجلس المدينة والتجار وأبناء القرى المجاورة للمنطقة وجلوس كل مجموعة وفق طبقته الاجتماعية.‏

يبدأ الحضور بالتوافد إلى المسرح عادة بعد الظهر وينتهي مع غياب الشمس كطقس اجتماعي أو احتفالي تحضره النساء ولهن أماكن مخصصة للجلوس. ويستغرق العرض عدة ساعات، خاصة إذا عرفنا أن الإضاءة لم تكن موجودة في هذه المسارح لذلك كان الاعتماد على ضوء الشمس فقط.‏

إذا كانت العمارة المسرحية تتألف من خشبة/ منصة وصالة متفرجين، فالخشبة بدورها تقسم إلى أقسام منها غرف الممثلين والممثلات وغرف الملابس والديكور والأقنعة ضمن طبقات وممرات خاصة لدخول الممثلين وممرات واسعة وكبيرة لدخول وخروج المتفرجين؛ بحيث يتم إفراغ المسرح خلال فترة قصيرة رغم العدد الهائل من الحضور ومساحة كبيرة تفصل بين المتفرج والمنصة تسمى الأوركسترا يتوسطها المذبح، وقد تكبر المساحة أو تصغر وفق الاستخدامات كحلبة مصارعة والألعاب الرياضية أو استقبال قادة الجيش العائدين من المعارك المنتصرة.‏

بصرى مسرح متكامل‏

يعتبر مسرح بصرى الشام المسرح الوحيد المتكامل في العالم الذي يجمع بين روعة البناء والدقة الفنية، إضافة إلى أن مدرجه من أكبر المدرجات الأثرية وأجملها والذي مازال محافظاً على معظم أقسامه وسائر عمارته منذ بنائه وحتى الآن. تقسم منصة التمثيل إلى ثلاثة أقسام مفصولة عن بعضها بوساطة ممشى تفتح عليه الأبواب لدخول وخروج المتفرجين. المنصة مصممة بصورة هندسية؛ حيث أن أصوات الممثلين وأنغام الموسيقيين تصل إلى أعلى درجات المدرج من دون حاجة إلى مكبرات الصوت.‏

لأول مرة منذ ألفي سنة يحتشد آلاف المتفرجين أمام أبواب مسرح بصرى وعلى مقاعده الحجرية منذ منتصف السبعينيات ليشهدوا عروض مهرجانه الدولي للفنون الشعبية كل عام والذي يتسع لأكثر من خمسة عشر ألف متفرج، تجتمع عليه فرق فلكلورية محلية وعربية وإسلامية وأجنبية وأمريكية لاتينية منها الصين والهند وروسيا الاتحادية والمجر.. تقدم فنونها الشعبية وتراثها وأزياءها في إطار التفاعل الثقافي مستحضراً التاريخ والتراث للشعوب التي تسعى إلى التعايش السلمي، وأحياناً تقام عليه حفلات غنائية وأمسيات موسيقية لكبار المطربين والمطربات العرب والأجانب مثل فيروز كحالة فنية شعبية. لذلك ارتبط هذا المسرح في أذهان العديد من السوريين وغيرهم بالفنون الشعبية ولم يسبق أن قُدمت عليه عروض مسرحية أو راقصة ربما لبعده عن المناطق التي يقطنها السكان والذي يتوجب أن تمتلئ بالمتفرجين وربما هكذا مسرح يتطلب إمكانيات وجهد مضاعف من قبل المخرج والممثل والإضاءة وخاصة المسافة البعيدة بين المتفرج والمنصة الذي يصل إلى آخر الصالة فضلاً عن توزيع الصوت من دون مكبرات بشكل يسمع إلى آخر طبقة في الصالة، وشروط توفير الرؤية الجيدة.‏

وزاد في أهمية المسرح التزاوج بين القلعة الأثرية الإسلامية التي بنيت في القرن الثاني عشر في عهد صلاح الدين الأيوبي مع الاستمرار والمحافظة على كلا البناءين طيلة هذه المدة الزمنية داخل المسرح ومحاطة به من الخارج التي أعطت بدورها نموذجاً للهندسة المعمارية العسكرية الإسلامية.‏

مسرح تدمر‏

وبالعودة إلى مسرح تدمر الأثري الصغير الذي يتسع إلى ألف متفرج مبني على أرض منبسطة كان مدرجه يستخدم كمسرح وحلبة مصارعة، نجد أيضاً أنه لم يقدم عروضاً شعبية كبيرة ليس لصغر حجمه وإنما لابتعاده عن المراكز الثقافية، لكن احتفظ بقيمته التاريخية، رغم ذلك حاولت محافظة حمص أن تستفيد من هذا المسرح وتقدم عليه مهرجان البادية الذي يتضمن أنشطة ثقافية وحفلات غنائية موسيقية وندوات ثقافية.‏

أفاميا وجبلة‏

مسرح أفاميا لا يختلف عن بقية المسارح في سورية وأكبر من مسرح بصرى. يعود بناؤه إلى القرن الثاني الميلادي، يستقبل أمسيات غنائية لمطربين كبار وحفلات السهر فقط، ولا يمكن لمخرج أن يقدم عرضاً مسرحياً في هكذا مسرح لأسباب عديدة، وكذلك ارتبط مسرح قلعة حلب بمهرجان الأغنية السورية لعدة سنوات وبحفلات غنائية لكبار المطربين العرب والأجانب منهم ديمس روسيز وغيره وإن كانت حصة صباح فخري هي الكبرى.‏

مسرح جبلة الأثري يعود تاريخ بنائه إلى أواخر القرن الثاني الميلادي، كان له محاولات عديدة لتقديم عروض مسرحية على الرواق الغربي لهواة هذا الفن الباحثين عن أماكن مغايرة أو خروجاً عن العلبة الإيطالية في إطار التجريب، فوجد الهواة ملاذاً فيه، ورغم ذلك يُقدم عليه مهرجان جبلة الثقافي السنوي ومهرجان الباسل ومهرجان طريق الحرير. ومن الممكن أن يقدم هذا المسرح الكثير من الفعاليات الثقافية والتظاهرات الشعبية والفنية وإقامة معارض تشكيلية وعروض راقصة كونه وسط مدينة جبلة، ولم يجد الحضور مشقة السفر إليه، لذلك يمكن الاستفادة منه بالدرجة القصوى في هكذا أنشطة.‏

يتسع المسرح لأكثر من عشرة آلاف متفرج، إذ كان مؤلفاً من ثلاث طبقات كمقاعد للمتفرجين ويقسم الصالة عن المنصة ساحة الأوركسترا، ومكان الملقن يقع على الواجهة العليا للمنصة.‏

خان أسعد باشا‏

خان أسعد باشا من الأماكن الأثرية العريقة الذي ساهم ويسهم في تفعيل الحركة الثقافية في مدينة دمشق، لقد قدمت مديرية المسارح والموسيقا العديد من عروضها وخاصة في المهرجانات عليه وله سمعة طيبة في أذهان مثقفي ومتفرجي دمشق رغم حداثة بنائه الذي يرتقي إلى القرن الثامن عشر. حاول بعض المخرجين أن يستفيدوا من هذا الخان الذي يقع وسط دمشق القديمة، مثلاً قدمت المخرجة نائلة الأطرش منذ أكثر من خمسة وعشرين سنة مشروع تخرج طلاب قسم التمثيل عليه وهو عرض «بيت برناردا آلبا»، اختارت المخرجة هذا المكان لأسباب عديدة وقد لا يكون الاستثمار الثقافي إحدى خياراتها لكن خياراتها كانت فنية تصب في صالح العرض ذاته، فوجدت أن نص لوركا قاس جداً خاصة الأسوار العالية حول بيت برناردا التي تجاهد للحفاظ على شرف العائلة، ثم تأثير الأحجار السوداء المحيطة بالخان التي تؤثر على نفسية الممثل قبل المتفرج، وكذلك الطابق الثاني الذي تخرج منه الجدة التي تريد الزواج وخاصة الممرات والدهاليز الموجودة في خان أسعد باشا، لذلك كان اختيار المكان موفقاً ضمن استراتيجيتها الفنية، وتحقيق فرجة شعبية لم يعتد المتفرج ارتيادها كثيراً آنذاك، وقدمت عدة أعمال مسرحية وفنية أخرى عليه، لكن الخان تحول إلى المتحف الطبيعي بالتعاون مع حكومة اليابان. وهو حتى الآن يقيم أنشطة ثقافية وموسيقية وأحياناً معارض تشكيلية.‏

المتحف الوطني‏

قدمت عروض مسرحية كثيرة في المتحف الوطني لاتساع مساحة الباحة التي تشمل على فضاء طبيعي تحت الهواء، إذ تنصب الخشبة في الباحة وفق تصور المخرج ويختلف موقع المتفرج من عرض إلى آخر، فمثلاً في عرض ظل ونور كان المتفرج في الأسفل والمنصة عالية، في حين أن الكواليس شبه معدومة، وكذلك في عرض الكلمة الأنثى، لكن عرض الأمير هاملت والزير سالم كانت المواجهة مباشرة بين المتفرج والممثل، إذاً فالمنصة والصالة متحركة تتخذ شكلاً في كل عرض، وجرى هذا الأمر في خان أسعد باشا أيضاً كون المنصة غير ثابتة في كلا المكانين.‏

خصوصية فنية‏

لا نعرف حتى الآن طريقة استخدام هذه المسارح تاريخياً، لأننا لا نملك دراسات تاريخية ولا توثيقية ولا حتى نصوصاً مسرحية أو صوراً لعروض حول هذا الموضوع، وكل ما لدينا أن هذه الأوابد التاريخية لازالت باقية إلى الآن، نضع فرضيات أو تصورات مقارنة مع المسرح الروماني القديم رغم أن هذه المسارح السورية لها خصوصية مختلفة عن خصوصية المسرح الروماني، إما من حيث الطبيعة الجغرافية والاجتماعية أو من حيث الطبيعة الفنية، فوصلت إلينا في هذا الشكل، ولا ندري إن كانت تستخدم للاحتفالات الدينية أو التظاهرات الشعبية في الأعياد أو المناسبات الوطنية كالانتصارات أو كانت متعددة الاستعمالات، لكن مهما كان الاستخدام، فهي التي تعطينا المعيار الثقافي والحضاري للإنسان السوري آنذاك والذي كان يمارس طقوسه الثقافية الفنية والشعبية والدينية وتظاهراته الثقافية إن كان ممثلاً أو متفرجاً أو مسؤولاً أو من عامة الشعب، وتبقى التحليلات في إطار التصورات والفرضيات فقط.‏

لا ندري أيضاً في أي فترة من السنة يقدم العرض وفي أي مناسبة، لا ندري إن كانت العروض تقدم في المناسبات فقط أم على مدار السنة، ومن الذي كان يرعاها وما هي التطورات التي حدثت في الخشبة أم هكذا وصلت إلينا من دون تطور أو إضافات وما مدى الاستفادة من البناء والزخرفة المعمارية اليونانية والرومانية أو غيرهما؟‏

لكن هذه المسارح التي تتسع لأكثر من عشرات الآلاف من المتفرجين دليل على ارتياد الجمهور إليه بكثافة. يقول تشلدون تشيني في كتابه تاريخ المسرح في ثلاثة آلاف عام: كانت هذه المسارح الضخمة تشاد في معظم البلاد التي تفتحها الجيوش الرومانية في صقلية وفي آسيا الصغرى وفي سورية وفي شمال أفريقيا وفي فرنسا وفي إسبانيا.. في القرن الثاني الميلادي، ولم يشر إلى العروض التي قدمت عليها ولا إلى طبقة الجمهور التي ارتادها، ولماذا بنيت بهذه الفخامة الزخرفية؟ ويشير تشيني في مكان آخر إلى أن معظم المسارح في المناطق التي فتحها الجيش الروماني تحولت إلى قلاع وحصون أواخر عهده.‏

ليست هناك أية إشارة مادية موثقة إلى حضور رجالات الإمبراطورية وأعضاء المجالس وأصحاب المقامات العالية لهذه المسارح إلا في إطار التصورات إذا استثنينا مسرح سيروس «النبي هوري» الذي خصص مقعداً خاصاً للإمبراطور جوستينبان وزوجته، في حين أن المسارح الأخرى لم يعثر فيها علماء الآثار على أي شيء مادي ملموس من هذا القبيل.‏

لماذا كان تأسيس المسارح يترافق مع وصول الجيوش الرومانية؟ قد يشير هذا إلى اهتمام الرومان بالجانب الترفيهي لجيوشهم لأنهم كانوا ينظرون إلى الفن المسرح نظرة دونية بعكس اليونانيين.‏

أعتقد أن مهمات وزارة الثقافة الملحة في هذه المرحلة تأهيل هذه المسارح والأوابد الأثرية واستثمارها السياحي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي للتنمية الإنسانية، خاصة أن أماكن تواجد هذه المسارح بعيدة عن المدن والبلدات نوعاً ما.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية