فتوصلت إلى بناء بيوت العبادة كونها تأخذ موقعاً استراتيجياً بين قارات العالم القديم.
تمتاز هذه المنطقة التي تتواجد فيها المدن المنسية بجبالها الكلسية البيضاء، وتمتد من الشمال إلى الجنوب على محور مدينتي النبي هوري شمالاً إلى أفامياً جنوباً مروراً بوادي عفرين ونهر العاصي، وتقسم المنطقة إلى ثلاثة أقسام هي: القسم الشمالي الذي يضم جبل سمعان، والأوسط جبال باريشا والقسم الجنوبي يضم جبل الزاوية.
لقد بدأ الاستقرار في هذه المنطقة منذ القرون الأولى للميلاد، وبلغت قمة تطورها وازدهارها مع انتشار الديانة المسيحية بين القرنين الرابع والسادس الميلاديين، فشهدت البلاد حركة عمرانية كبيرة عمّت جميع المناطق والقرى.
تقع أفاميا في وادي العاصي في سورية، تأسست المدينة حوالي 300 قبل الميلاد على يد أحد ضباط الإسكندر المقدوني سلوقس، وازدهرت كقاعدة عسكرية هامة وبعد ذلك أصبحت مركزاً للمقاطعة الهلنستية. سقطت المدينة من يد الرومان واتخذها القائد والسياسي والعسكري الروماني بومبي عام 64 قبل الميلاد مقراً له.
عانت المدينة أضراراً بالغة بعد الزلزال الشديد عام 115 ميلادية وأعيد بناؤها بعد ذلك، وما تبقى من آثارها إلى اليوم هي من بقايا القرن الثاني الميلادي في حين أن الآثار الأخرى اندثرت بعد الزلزال.
يمتد وسط المدينة القديمة شارع من أطول وأوسع الشوارع في العالم القديم معبّد ببلاط كاردو ماكسيموس، إذ يقارب واحد كيلو متر وتصطف على جانبيه أعمدة طويلة مزينة بزخرفة رومانية. وقد زارت كليوباترا ومارك أنطونيو وهانيبال المدينة القديمة التي يبلغ عدد سكانها آنذاك خمسمائة ألف نسمة.
مقام الإله السامي
تعتبر قرية كفر نبو «مقام الإله السامي» من القرى القديمة ويمتد تاريخها إلى ما قبل المسيحية بكثير. كان سكانها يعبدون الأوثان إلى أن جاء القديس مار مارون وسعى إلى تحويل معبد نابو الوثني إلى كنيسة كبيرة، وبدأ دعوته في هداية الناس إلى الدين المسيحي ودفن فيها، وانطلقت المسيحية من هنا إلى الشرق الأوسط ويقدر عمرها بآلاف السنين.
يقع كفر نبو شمال شرق قلعة سمعان بنحو عشرين كيلو متراً وهو مقصد للحجاج المسيحيين من مختلف البلدان رغم أن سكانها لا ينتمون إلى المسيحية، فكنائسها تشهد إقبالاً كثيفاً، ولا تزال معصرة الزيتون والمنازل السكنية وفندقاً بأقسامه الثلاثة تعود إلى القرن الخامس الميلادي، فالمعصرة منحوتة في الصخر على نحو يصعب للمرء تخيل أن هذا من صنع الإنسان القديم. في كل أرجاء القرية توجد شواهد، حيث تماثيل الرجال والنساء مقطوعو الرأس وأشكال حجرية غريبة، لا يوجد مثلها الآن وقد ساهم بناء كنائس من أحجار المعابد في قيمة القرية المعنوية نفسها.
ورغم أهمية كفر نبو التاريخية والدينية والسياحية إلا أن قلة من الناس يعرفون ذلك، فهي تؤرخ عهد السيد المسيح عليه السلام من خلال المعابد الموجودة فيها مثل معبد المارتيريون «الشهداء» الذي لا تزال النقوش عليه تتضمن تاريخ بناء المعبد بالسريانية سنة 565 ميلادية تقول: أنا الكاهن بنيت هذا المارتيريون.
يتسم معبد نابو بطابع ديني رهباني وشعور معنوي ونقوش ذات صلبان وآيات وصلوات حفرت فوق أعتاب الأبواب التي تعبق منها إنسانية حب الآخر، كما نجد كتابة متميزة باللغة اليونانية فوق مدخل البناء: «المجد للأب والابن والروح القدس، أيها الرب يسوع، ارع دخولنا وخروجنا وفاءً لنذر القديس زكا»، والقديس زكا هو الذي استقبل المسيح في بيته.
النبي هوري
تقع قرية سيروس «النبي هوري» في الجهة الشمالية الشرقية من منطقة عفرين، تبعد عنها أربعين كيلومتراً وعن الحدود التركية السورية 2 كيلو متر، وعلى السفح الشرقي للمرتفع الجبلي الذي أقيمت عليه القاعة.
تعرف القرية الآن بـ نبي هوري والاسم اليوناني سيروس، وسميت في فترات تاريخية بـ آجيا بولس، أي مدينة القديسيّن كوزما ودميانوس اللذين بنيا كنيسة حول قبريهما. دخلت سيروس المسيحية على يد سمعان الغيور الذي بنى فيها كنيسة ودفن فيها، وسماها المسلمون قورش «كورش». ولجميع هذه الأسماء صلة بتاريخ الاستيطان وبناء المدينة والأحداث التي وقعت حولها. هناك روايات حول هوري أو أوريا بن حنّان أحد قادة نبي داوود، وهناك من يرى أن هوري اسم شعب قديم سكن جبال زاغروس وطوروس في الألف الثالثة والثانية قبل الميلاد، وتأسست الإمبرطورية الميتاهورية الكبيرة وسيطرت على الشرق الأدنى. ويعتبر السكان الأصليين لتلك المنطقة أحفاد الشعب الهوري، وهناك كهوف الهوريين في المنطقة، وقيل إن اسمها هاوار من هوري، أما سيروس هو اللفظ اليوناني لاسم الملك الفارسي كورش.
وقد بناها القائد اليوناني سلوقس نيكاتور «312ـ 280» قبل الميلاد مؤسس الدولة اليونانية في الشرق وأطلق عليها سيروس، وتمركزت فيها قوات كبيرة بحكم استقلاليتها وسكت فيها النقود، كما كانت مركزاً لعبادة الإلهين أثينا وزيوس.
سيطر عليها ملك أرمينيا تيكران عام 83 ق.م واستردها الرومان 69 ق.م وأصبحت ولاية رومانية مع دخول القائد بومبي، وبقيت سيروس مركزاً دينياً مسيحياً حتى نهاية العصر الروماني. كانت كنيسة ديونيسوس ملجأً للمؤمنين حتى أصبحت أبرشية تضم 800 كنيسة. بنيت قلعة المدينة ومسرحها في عهد الإمبراطور جوستينيان، استسلمت لسيطرة القائد الإسلامي عياض بن غنم 637 ميلادية من دون حرب، وقد أمر الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك بنقل حجارة كنيسة سيروس وأعمدتها لبناء جامع زكريا في حلب، ولم يستطع الإمبراطور البيزنطي استردادها لقاء أموال طائلة، وعندما استولى عليها نور الدين الزنكي أمر بتدميرها والانسحاب منها خوفاً من سقوطها بيد الإفرنج.
من أبرز الآثار الباقية في المدينة هو المسرح الروماني إضافة إلى شارعها الرئيسي والحمامات والمدافن، وقبر روماني على شكل مسدس الشكل لا يزال يحتفظ بكامل هيكله، وتحت البرج قبر وبجانب المدفن مسجد.
قلعة سمعان
تقع قلعة سمعان في النهاية الجنوبية لجبل ليلون، وكان القديس سمعان قد اختار المكان المنعزل للتقرب إلى الله للعبادة، ولد سمعان أو سيمون حوالي 368 للميلاد في بلدة سيس القريبة من أضنة في تركيا ثم انتقل إلى جنوبي شيخ بركات وأمضى هناك عشر سنوات في العبادة والتقشف ثم لجأ إلى بلدة تيلانيسوس «دير سمعان»، ثم ارتقى قمة الجبل وربط نفسه بسلسلة حديدية إلى صخرة وراح الناس يقصدونه، وبنى لنفسه عموداً بارتفاع 16 متراً ليقيم عليه، وأمضى عليه اثنين وأربعين عاماً حتى وفاته.
تعتبر كنيسة مار سمعان من أكبر كنائس العالم، اتخذ البناؤون من العمود مركزاً لبنائها الذي أخذ شكل صليب ذراعه الشرقي أطول قليلاً من الأذرع الثلاثة الأخرى، أضيفت ملحقات الكنيسة الأخرى بعد سنوات مثل الدير الكبير، بيت المعمودية، والمقبرة، وبعض دور السكن لطلاب العلم وفنادق للضيوف. ضربها زلزال كبير فألحق أضراراً بها وسقط سقفها الخشبي آنذاك. وبعد وفاة مار سمعان اكتسبت المنطقة شهرة مرموقة ومقدسة، فتحولت القرية المجاورة إلى مدينة للرهبان وبنيت فيها ثلاثة أديرة لكل منها كنيستها والملحقات الأخرى للدير إضافة إلى فنادق لاستقبال الحجاج والضيوف، وما بقي حتى اليوم هو الدير الصغير في الجهة الجنوبية للقرية.
عين دارا
تقع عين دارا الأثرية جنوب مدينة عفرين على مسافة 5 كيلو متر، ويتألف الموقع الأثري من قسمين: جنوبي صغير وقديم، وشمالي كبير وأقل قدماً.
عثر في القسم الجنوبي على بعض الأدوات الصوانية وأحجار بناء تعود إلى العصر الحجري الحديث وهي عبارة عن قرية زراعية. في حين أن القسم الشمالي يعود إلى نهاية الألف الثانية قبل الميلاد، وموقع عين دارا الأثري وما يميزه هو معبده المشهور الذي يعود إلى بدايات حثية وهورية، المعبد مقام على نموذج هيلاني وهو نموذج هوري/ ميتاني كان سائداً في تلك الفترة في المنطقة، وقد عثر المنقبون في المعبد على لوحات لكتابات هيروغليفية حثية من الألف الأول، كما عثر على لوحة للإلهة عشتار بالحجم الطبيعي، وعلى مداخل المعبد تماثيل أسود، إذ كان السكان يزينون أبوابهم بتماثيل أسود وحيوانات خرافية بهدف حماية هذه المداخل بطريقة سحرية، يتدرج المدخل ثلاث درجات منقوشة ومزينة بأشكال تشبه الضفائر تؤدي إلى الرواق وتتميز العتبة الأولى بصورة قدمين بشريتين والثانية بصورة القدم اليسرى، وترمز هذه الأقدام إلى دخول الرب إلى المعبد أو تحديد كيفية الدخول إليه، وعلى الداخل أن يقف ليردد بعض التراتيل الدينية ثم يخطو بالقدم اليسرى، فيدخل المصلى بالقدم اليمنى، ويشكل أسدان بازلتيان جانبي الرواق، بينما تشكل ثمانية أسود في كل جانب أربعة لوحات رائعة، والواجهة الرئيسية متناظرة الشكل حيث يشاهد على جانبيها تمثال أبي الهول على يمين ويسار الدرج وبجانبهما أسدان متقابلان يلتفتان نحو اليمين واليسار.
وقد عثر على اللقى الأثرية من دمى أنثوية للربة عشتار وتميمة من الحجر البللوري عليها أهورامزدا الممتد مع قرص الشمس المجنح، وفي فترة متأخرة عثر على فخار يوناني وكميات من الفضة السلوقية.
عُثر في الموقع على محراث خشبي ذي نصل حديدي، ومبان سكنية ومعاصر للزيتون وأفران لصناعة الخبز وصهر الحديد، وآثار كنيسة القرية وعلى العديد من الصلبان البروزية في الكنيسة. ومن أهم اللقى الأثرية كمية النقود الذهبية في المنازل المحترقة تعود إلى قياصرة بيزنطيين. وفي العصر المملوكي، أحرقت القرية ودمرت تدميراً بعد دخول السلاجقة الأتراك إليها.
دوده رييه
كهف دوده رييه وهو من الكهوف الكثيرة المنتشرة في وادي عفرين وجبل ليلون، ويعني الاسم ذو البابين، يشرف بابه الأول على الوادي من الشمال والآخر بمثابة مدخنة طبيعية واسعة مفتوحة باتجاه السماء، يبلغ عمق الكهف 30 متراً وقد أخذ شكل قنطرة، وخلال تنقيبات موسمين متواليين من قبل بعثة يابانية وسورية تم العثور على 70 قطعة من أجزاء الهيكل العظمي لإنسان نياندرتال من العصر الحجري الأوسط. إذ عثرت البعثة على هيكل عظمي لطفل يبلغ من العمر خمس سنوات وكان الهيكل هو الأكمل لإنسان ذلك العصر. وقدر علماء البعثة عمر العظام بحوالي 100 ألف سنة. وفي التنقيب الثاني عام 1999 عثرت البعثة أيضاً على هيكل عظمي لطفل نياندرتال آخر لم تظهر المعلومات عمره وتاريخ وفاته.
يُعتقد أن الاستيطان في قرية براد يعود إلى القرنين الثاني والثالث الميلاديين، حيث يوجد في الموقع معبد وضريح ودكاكين ترمز إلى وجود صناعة الزيت في القرية تعود إلى القرن الثالث للميلاد.
وهي من أكبر القرى الأثرية في شمال سورية مساحة يوجد فيها دور متناثرة ذات أحجار مضلعة تعود إلى الفترة الرومانية بما في ذلك مدفن روماني وحمامات، وفي وسط القرية كنيسة القديس جوليان المهندس الذي أشرف على بنائها وتعد ثالث أكبر كنيسة في سورية بعد كنيستي سمعان وكرانتين شرقي المعرة ودفن فيها مار مارون «347ـ 410» ويبدو أن الكنيسة بنيت فوق معبد قديم.