سافر وتغّرب، غرّب وشرّق، لكن قلبه ظل معلقاً بالوطن الأم، وهو لايزال حتى الآن يرى أنه في الطريق إلى دمشق المثل الأعلى. دمشق اللامرئية، وهي كما يقول: دمشق كرمز الكعبة التي ماأزال في رحلتي إليها، وأنا الآن أتمتع بدمشق الواقع ولا أجد عنها بديلاً، فرغم كل ماعاناه بقي كصخر قاسيون لم يتزحزح عن مبادئه قيد أنملة، علمته ذراه أن يرفع الهام للأنجم في سورية أم العزة والإباء، البلد الذي بقي معششاً كالروح يعانقها البدن.
يعد نذير العظمة من أبرز مؤسسي الحداثة في الوطن العربي، فهو كما وصفه الصديق مراون فارس المبدع، والإبداع في حد ذاته التزام بالحداثة، والحداثة إضافة إلى ما كان في الأدب وما سيكون، ذلك أنه شاعر متميز، وضع روحه في كفه أعطاها لغيره، صور نذير العظمة في الشعر مشروع إعمار للحياة المتهاوية، فالحب عنده إعادة إعمار للحياة.
وهو إذ يرى الحداثة مشروعاً متكاملاً للفكر العربي، ويمثل العودة إلى التراث والولادة منه وإن كان بعضهم يدعو إلى قطعه، وأما ما بعد الحداثة فهو مشروع غير متكامل، ويمثل مدرسة اللامعقول في أوروبا، ونحن مازالت لدينا ترسبات من عبادة للتراث، وعبادة للأسلاف، وعبادة اجترار الماضي والتي تدعونا للمعارضة، ويكون إنتاجنا قائماً على كل تلك العبادات ومع ذلك كان يدعو إلى تأصيل الحداثة، وتحديث الأصالة إذ إنه أدرك ألا حداثة دون تراث، لأنها ستكون قفزة في الهواء.
كما أنه كان يذكر دائما بأنه علينا أن نصنع زمننا ونبدع صورنا، دون أن نتخلى عن الجذور، لأن ينابيعنا المعرفية ، هي الحاضر عبر الماضي، فأعينه دائما على المستقبل وحياة الأجيال الآتية.
وحين سأله الأستاذ عبد الرحمن الحلبي: كيف وزانت بين هذه النظرة لصنع وإبداع الزمن دون أن تتخلى عن الجذور؟ وكيف تنظر إلي أولئك الذين يرون أن تحقيق الراهن والمستقبل لايتم إلا بالقطعية مع الماضي؟ أجاب:
بقدر ما في جذور الإنسان من حضارة أتمسك بها فأنا لا أقدس الماضي، فحضارة الإنسان متعلقة بالعقل والحرية، وهذه الركائز الثلاث الإنسان والحرية والعقل، هي التي تجعل من الماضي مستقبلا، والماضي ليس تغنيا وإنما مسؤولية، كما أن البندقية وحدها لاتقرر حرية الحر وعبودية العبد، إذ لابد من وعي يحركها، والحرية بالوعي لا تكتمل بغير الفعل لأنها وجه آخر للمسؤولية.
شارك د. نذير العظمة في تأسيس مجلة «شعر» بالتعاون مع يوسف الخال وخليل حاوي وأدونيس وهو يعتبر نفسه في فترة الخمسينيات أكثر موهبة من الثلاثة، فغنائيته ليست شخصية ونصه يرتقي إلى المستوى الذاتي والتواصل مع الآخر، ورغم انتمائه القومي، إلا أنه لم يكتب عن تجربة إنسانية ولا تحكم أشعاره أي إيديولوجيا.
أما د. راتب سكر فيراه يطل على الوجوه من علو شاهق، كأن جبلته تحمل جذوة من قمة قاسيون، وهو الشاعر المترجم والمسرحي والراوئي، والناقد المقارن والمنظم الثقافي الذي يتنوع عطاؤه تنوعاً متصلاً بحيرته الفلسفية المتوشمة بقلق وجداني يضيق بشاعر كبير، أما عمق ثقافته فقد تجلت بدءا من ديوانه نواقيس تموز إلى مسرحيته (أوروك تبحث عن جلجامش) ثم رواية الشيخ ومغارة الدم وكتابه النقدي التغريب والتأصيل، وبدر شاكر السياب، كل ذلك يؤسس حواره مع عناصر تلك الثقافات على اعتقاده بوحدة الوجود وجوهره،إذ كانت مؤلفات في الشعرو الرواية والنقد مواكبة لاهتمامه الأصيل بحوار الثقافات ومؤسسة لشغله الجاد على الأدب المقارن، أما في قصائده فتهمين دهشة الطفل على رواية العالم، فشخصية نذير العظمة تشع بأنوار جبرانية واضحة تعكس شيئاً من كبرياء تلك الأنوار وتساميها وتمردها، وهو بذلك يستحق أن ينتمي إلى الشام العريق (فيحيا وتحيا سورية ما أنجبت للشعر عملاقا وأنشد معجب).