لكن التحول لم يحدث فجأة مع الثورة التكنولوجية الرقمية. كان التحول قد بدأ يعبر عن نفسه في فترات سابقة. كتب الشاعر الإنكليزي فيليب لاركين و الذي كان يعشق موسيقى الجاز الأمريكية في أربعينيات القرن الماضي مقالة مشهورة عبر فيها عن شغفه بتلك الموسيقى. و لكن لاركين نفسه عبر عن شيء من الاغتراب تجاه هذه الموسيقى في نهاية الأربعينيات في الوقت نفسه الذي إنطفأ فيه نجم فنان الجاز تشارلي باركر ليحتل مكانه لويس آرمسترونغ. عبر لاركين عن تحول جديد في الموسيقى بقوله: «لقد تغيرت الموسيقى و تغيرت حتى الطريقة التي تكتب بها. هناك شيء جديد فيما أسمعه الآن يشبه ما أقرأه في الكتب الجديدة التي تظهر اليوم. هناك شيء في هذه التطورات و في هذه اللغة الجديدة أكثر صعوبة و تعقيداً و يتطلب منك جهداً كبيراً لتذوقه أو فهمه».
يشير لاركين هنا إلى اللغة الجديدة التي بدأ النقد وقتها يستخدمها لمقاربة إنجازات الحداثة في الرسم و الأدب و الموسيقى. إن لويس باركر كان بالنسبة للجاز كما كان بيكاسو للرسم و عزرا باوند للشعر. و بالنسبة للاركين كان كل هؤلاء يمثلون عالماً متمرداً غامضاً هو الحداثة. في القرن العشرين إجتاحت ثورة الحداثة كل الفنون التي قطعت صلاتها بجمهورها التقليدي و تحولت إلى أشكال تعبيرية معقدة و صعبة. لقد أدت الحداثة إلى إنهيارات كبيرة و تغيرات عميقة في بنى الفن التقليدية، لكن الموسيقى الكلاسيكية كانت أكثر الفنون تأثراً بتلك الانهيارات و التغيرات.
خلال قرنين من الزمان، و تحديداً بين باخ و شوستاكوفيش، كان فن الموسيقى الأوربي يمثل عظمة الحضارة و الإبداع الإنساني. و تمتعت الموسيقى الكلاسيكية في عصرها الذهبي بأجيال مبدعة و نماذج عبقرية و بجمهور عريض مواظب بالإضافة إلى علاقة مباشرة مع الحياة الفكرية للعصر. و كانت الحياة في فيينا في القرن التاسع عشر تشبه الحياة في أثينا القرن الخامس قبل الميلاد أو فلورنسا عصر النهضة حيث كان متذوق الموسيقى يجد دائماً و بوفرة أعمالاً موسيقية عظيمة و عباقرة جدداً. و فجأة توقف كل شيء بعد الحرب العالمية الثانية. صحيح أن بعض الناس لا يزالون يذهبون اليوم إلى حفلات الموسيقى الكلاسيكية، و صحيح أن تقنيات الاستماع و التسجيل الحديثة وفرت للجميع فرصة غير مسبوقة في التاريخ للتمتع بسماع أعمال موسيقية كلاسيكية في أي زمان و مكان، لكن المشكلة تكمن في أن الإنتاج و التأليف الموسيقي قد تراجع كثيراً و كاد يتلاشى. و لا أعتقد أن مشكلة تراجع فن الموسيقى الكلاسيكية يعود إلى أن معظم الجمهور لا يستطيعون تذكر اسم موسيقار واحد على قيد الحياة رغم وجود العديد منهم يعملون بنشاط، و ذلك لأن عصر الإعلام و الصورة لا مكان فيه للعباقرة بل للنجوم فقط . يبدو أن المشكلة تعود إلى أن الناس لم يعودوا يهتمون بالاستماع إلى هذا النوع من الموسيقى، و كأن المؤلفين الموسيقيين المعاصرين لم يعد لديهم شيء مهم يقولونه للناس!
إن الناس المثقفين في عصرنا الذين يتابعون بشغف كل جديد في عالم الرواية أو الرسم مثلاً هم أنفسهم سيغادرون قاعة العزف قبل نهاية الحفلة الموسيقية. لقد أصبح مشهد المقاعد الفارغة مألوفاً في تلك الصالات العريقة التي تقدم أعمالاً كلاسيكية، كما يقول الناقد فريد كيرشنيت في مراجعته لمهرجان موزارت الأخير. و في هذا المناخ يترتب على الناقد مسؤولية كبيرة و صعبة بشكل إستثنائي. إن الناقد الجدي في أي مجال كان يعمل، في الموسيقى أو الأدب أو الرسم، يواجه جمهوراً لا يشعر فقط بالاغتراب عن الفن، بل إنه يبحث عن مبرراته للإبتعاد عن تذوق الفن الراقي. لذلك فإن مهمة الناقد الأساسية حتى قبل أن ينظر في عمل فني معين هي أن يواجه القارئ أو المستمع أو المشاهد بحقيقة جهله و يقنعه أن الفن ما زال جديراً بالمتابعة و بالتذوق و أن هناك الكثير مما هو ثمين و مجد في أي تجربة فنية حقيقية. إن أي شخص سمع بأن الموسيقى الكلاسيكية قد ماتت يجب أن يجد من يقنعه بأن هذا هراء و بأن الموسيقى ما زالت حية.
إن النبوءة التي أطلقها نورمان لبرك في كتابه «من قتل الموسيقى الكلاسيكية» بأن عصر الموسيقى قد إنتهى تبدو مبررة بدافع الغضب، لكنها بالتأكيد ليست صحيحة لأن الموسيقى حاجة إنسانية. الموسيقى لا تموت، بل هي ضرورة في عصر الانفجار الصوتي الذي نعيشه، فربما كانت وسيلة من وسائل دفاعنا عن النفس تجاه ظاهرة الضجيج التي تجتاح حياتنا. من المؤكد أنه ليس من المطلوب الآن إستعادة أمجاد و سحر فيينا القرن التاسع عشر، بل المطلوب هو إبداع مساحات جديدة من الصمت حيث يمكن لتجربة الموسيقى أن تتحقق، و حيث يمكن للإنسان أن يستعيد موهبته الأصيلة في الإصغاء.
عن صحيفة نيويورك سن الأمريكية.