تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


ثنائيّة الأدب والتجارة

ملحق ثقافي
9/3/2010
هيثم حسين: إنّ ثنائيّة العلم والمال ليست بجديدة، وكان الجاحظ قد أجاب على سؤال: لماذ يقصد العلماء أبواب الأغنياء، ولا يكون العكس..؟! بأنّ العلماء يعرفون قيمة وفضل المال.. فهل اختلفت الآية في عصرنا الراهن؟!

أليست هنالك حالات يتوحّد فيها الجانبان..؟ ألم تدخل التجارة في صلب العلم والأدب..؟! ألم يحوّل بعضُهم الأدبَ إلى تجارة..؟! وهل سيكون القول بتنافرهما صحيحاً..؟! ألا يشكّلان معاً قطبين متكاملين..؟!‏

لا شكّ أنّ هناك مَن سيستهجن هذا العطف أو المزاوجة بين الأدب والتجارة،‏

وقد يكون الاستهجان من الطرفين على السواء، فالأدباء ينظرون إلى أنفسهم على أنّهم نخبة المجتمع وصفوته، والطليعة الواعية التي تقود كلّ تطور محتمل أو مأمول، وهؤلاء يزعمون أحياناً انخراطهم في صفوف الجماهير التي تحتاج إلى مَن ينبّهها إلى ما يجري حولها، كما تراهم دائمي السخط والاستياء من ظروفهم وواقعهم. وقد ينظر قسم منهم بنوع من التتفيه إلى التجارة، كونها تستلزم تحايلاً أو تجميلاً أو مسايرة للزبائن، ذلك أنّها تعتمد على العرض والطلب وطريقة العرض التي يكون البحث الدائم عن وسائل لتطويرها، لاستقطاب أكبر كمّيّة ممكنة من الزبائن. وبالمقابل، فإنّ قسماً كبيراً من التجّار ينظرون إلى الأدب والأدباء نظرة شفقة من الناحية المادّيّة، تشوبها السخرية منهم ومن ظروفهم المعيشيّة، كما لا تخلو تلك النظرة من الغيرة التي تدفع عدداً منهم إلى إهمال تجارته والتفرّغ للأدب، كي يحظى بالتقدير المعنويّ الذي يحظى به عدد من الأدباء. ومن جهة أخرى فإنّنا نجد عدداً من الأدباء الذين استهواهم عالم المال والأعمال، فركنوا الأدب في زاوية ليعودوا إليه بعد تأمين ظروف معيشيّة أفضل، تغنيهم عن الحاجة، وتؤمّن لهم مقوّمات ديمومتهم في الأدب الذي يصفونه أنّه مستقبلهم. ليترقّوا إلى التجارة، ويدخلوا في قلب العالم الحقيقيّ الذي يختلف جملة وتفصيلاً عن عوالم الأدب «الخرافيّة» أو المؤمثلة. ثمّ ليغرقوا في ذلك العالم الحقيقيّ، الذي بمقدوره وحده التحكّم بمقاليد الأمور، وتوجيه السياسات بحسب المطلوب، واستصدار القرارات التي تكفل لهم أفضل السبل للسيطرة على السوق أو التحكّم به.. ويصبح الأدب ذكرى مؤسية ومؤلمة لهم، قد يندمون بعد جمع كمّيّة من المال على تركهم الأدب وهجره إلى التجارة. لكنّهم لن يلبثوا كثيراً حتّى يواسوا أنفسهم بأنّه ما كان لهم أن يعيشوا برفاهيّة لولا الالتجاء إلى التجارة واستخدام الأساليب الأدبيّة المتنوّعة فيها. وأنّ الأدب لم يكن ليطعمهم وأولادهم خبزاً. ثمّ قد نجد آخرين يزاوجون بين كليهما، إذ يبدأ بافتتاح هيئات أو منابر أدبيّة أو صحفيّة، يستعين بمن يضمن ولاءهم من الأدباء، ومن المسوّقين، أو من المروّجين المتأدّبين، الذين ينهالون بالتعظيم للإبداع الاستثنائيّ الذي يعلنون اكتشافهم له، ولا نعدم من سيعتذر لأنّه لم يصادف التعرّف إلى هذا الأدب المفصليّ الذي يصنّف كنقطة انعطاف في تاريخ الأدب ككلّ.‏

فكما أنّ عصب التجارة هو العلاقات التجاريّة مع المصادر والمراكز والأسواق والعملاء، علاوة على رأس المال الذي قد يستعيض عنه صاحب التاريخ التجاريّ الحافل، أو ذاك الذي أسعفته الظروف الزمنيّة والتاريخيّة وألقت به باكراً قبل غيره في عالم السوق، ليكون رأس ماله هو العلاقات التي متّنها بالتقادم، باعتماد الوسائل كلّها، فيبقى رغم إفلاسه الحقيقيّ محتفظاً بمركزه الجاذب، مَحوطاً بهالة الماضي الذي ينأسر له بعض المحيطين به، أو بعض من المغرّرين بحذاقته وفهلوته. لكنّه يُعرّى شيئاً فشيئاً، وتكشف أوراقه، لأنّ إفلاسه سيشهر مهما تكتّم عليه أو عتّم.. فإنّ عصب الظهور الإعلاميّ هو العلاقات أيضاً. ولاشيء غيرها. وهي تختلف من شخص لآخر، وفق المتوفّر..‏

كذلك تكون التعرية بالمرصاد بالنسبة لروّاد العلاقات فقط. هكذا تماماً سيكون مصير المتأدّبين الذين قدّمتهم المنابر التي تكفّلت بهم، أو الأموال التي هيّأت لهم إدارة المشاريع الأدبيّة، فيكون منصبهم الموهم لهم والمُمغنظ لغيرهم، الذين قد ينجرّون إليهم وينساقون وراء غشاوة الأسماء والألقاب المُعمية، تبدأ المحسوبيّات والتراضيات بالانتعاش، فيبدأ تعظيم البسيط والسخيف، وتوصيفه بالسهل الممتنع، أو باستعارة عنوان شعريّ شائع لرياض الصالح الحسين: «بسيط كالماء واضح كطلقة مسدّس». لكنّ الغربال النقديّ الزمنيّ لا يحتفظ إلاّ بالحقيقيّ فيسقط المهوَّل والمُمرَّق والمغضوض عنه الطرف، ولن يذكر أحد ما كانوا وكيف كانوا. ما كتبوا ولا ما لم يكتبوا. يُنسون بسرعة فقاعيّة. وذلك ما تؤكّده كثير من التجارب الواقعيّة. فكم من مشرف على أحد المنابر، يُنتسى ويهمَل، حيث كان ممّن قد طغى في منبره وتجاوز المسموح له، وقدّم وجوهاً مرقّعة ليجمّلها كي لا تخطف الأضواء منه، وكي يكون أصحابها إمّعات عنده يتحرّكون وفق توجيهاته، لأنّه يكون عرّابهم، ثمّ يتفرّقون عنه، ويهجرونه إلى آخر، بعدما يفقد امتيازاته وسلطاته، لينضمّ بعدها إلى صفوف الساخطين المستائين من الأوضاع القائمة. يكتشف أنّه اشتغل للتجاريّ، وظنّ الأدب تجارة يتاجر بها ويتحكّم بحراكها، يقصي ويقدّم على هواه، فينتقم منه الأدب الذي لا يرتكن إلى القوّة والسطوة والهالة، بل ينحاز إلى السامي الذي لا يتهافت ولا يستزلم.‏

في «سوق» الأدب كثير من المتشابهات والمتشاركات مع عالم التجارة. فكلاهما علاقات. وكلاهما يكتسبان الديمومة بالتأسيس السليم الواعي، لا بالاعتماد على المفرزات غير المؤسّسة عن وعي وخبرة ومران. والواقع يكفل بكليهما..‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية