شارف عمر رحلة عطائه على نصف قرن من الزمن ، ولازالت مستمرة حتى الآن، بكثير من الاجتهاد و الفاعلية و التألق.
مسيرة حافلة
فعبد الرحمن من مواليد حلب عام 1946. درس الرسم و النحت في البداية دراسة خاصة، ومارسهما باجتهاد . ومنذ العام 1960 يقيم المعارض الفرديّة داخل سوريّة وخارجها ويشارك في المعارض العامة. تخرج في دار المعلمين عام 1967 ومارس مهنة التعليم ردحاً من الزمن، كما قام بتدريس مادة النحت في مركز فتحي محمد للفنون التشكيليّة بحلب منذ العام 1973، وفي العام 1976 تفرع لممارسة النحت. العام 1980 سافر إلى إيطاليا و درس النحت العاري في أكاديميّة الفنون الجميلة بروما، وبدءاً من العام 1984، توجه لإنجاز الأعمال النصبيّة من مواد وخامات النحت المختلفة «الرخام، الحجر، البرونز» في أكثر من مدينة سورية، لا سيما في مسقط رأسه، وهذا التنوع في الخامات والمواد، مرده اعتقاده أن الحلول التشكيليّة غالباً ما تتوافق مع طبيعة وسيلة التعبير التي يتعامل معها النحات، ومع حجم هذه المادة. فالحجر في تقديره لا يحتمل نسبة كبيرة من الفراغ نظراً لطبيعته التي تجمع بين الصلابة والهشاشة، لا سيما إذا كان أمام كتلة كبيرة تفرض ذاتها كحجم لا يستحسن اختراقه. وهو منذ تعرف إلى لغة النحت، حاول أن يحقق في منحوتته مسألتين اثنتين: المسألة الأولى هي جمال الكتلة النحتيّة، والمسألة الثانية، حقنها بقوة تعبيريّة تلح على القيم الإنسانيّة بمختلف ألوانها وأشكالها، وهذا ما دفعه للجمع بين التشخيص والتجريد في المنحوتة الواحدة أحياناً، أو اقتصارها على أحدهما، ذلك لأن كل عمل نحتي يحتاج إلى حلول تشكيليّة تتناسب مع فكرته ومادته. أو بين شكله ومضمونه. ولأن الفنان يعيش حالات متباينة وعجيبة من الأحاسيس، لا بد للتعبير عنها من صيغ ومواد تعبيريّة متباينة أيضاً!!.
خاض عبد الرحمن غمار خامات ومواد و تقانات النحت كافة، غير أن خامة الرخام استأثرت باهتمامه أكثر من غيرها، ما دفعه لانجاز غالبية أعماله منها، بعد أن وجد فيها ما يلبي طاقته التعبيريّة، خلافاً للصلصال، مادة التشكيل النحتي الأكثر طواعية بين يدي النحاتين الذين وجدوا فيها متكأً ومعبراً ووسيلة للوصول إلى تقانات النحت الأخرى، كالجبس و البرونز و الحجر الصناعي و الاسمنت و البوليستر.
خامة عنيدة وفنان متمكن
منذ البدايات الأولى لتجربته الفنيّة، اهتدى عبد الرحمن، إلى الأسرار الوسيمة، و القيم النحتية و التعبيرية الرفيعة الكامنة في خامة الرخام، فأحبها، و تفاعل معها، و جعل منها ميداناً رحباً، ليديه و أدواته لاستنهاض منها وفيها، تكوينات فراغية، اتخذت لديه منذ البداية , مسحة تكعيبيّة هندسية محقونة بالحيويّة و الحضور البهي في الفراغ، ذلك أن عبد الرحمن، وفي منحوتاته الرخامية كافة، يزاوج ببراعة،بين السطح الهندسي الصريح المشغول بدقة، وبين السطح المحدب الحنون، بحيث يتناول و السطح الآخر، القيم التشكيلية و التعبيرية، جاعلاً من كتل المنحوتة تعيش حالة من الحوار المنسجم بين حدة الهندسي الصارم، ونعومة المنحني الملفوف برهافة، وهذه الصياغة النحتية المنفذة بإتقان وتمكن، تفرد بها عبد الرحمن، وتألق من خلالها، وفي نفس الوقت، أخرجت أعماله من برودة الهندسية الصارمة، وقسوة الخامة العنيدة التي سكب فيها حياة نابضة غلفها بغموض جميل لابد حياله للمتلقي، من إعمال بصره وبصيرته لإدراكه!!.
لقد أفنى عبد الرحمن عمره وهو يعالج خامة الرخام الذي وجدها الأقدر على استيعاب واحتضان أفكاره ورؤاه، رغم صعوبتها وعنادها ومشقة التعامل معها. بل ذهب عبد الرحمن ابعد من ذلك، في تعاطيه معها, إذ أعلن «انه يعيش كامل أبعاده في كتلة الرخام. يذوب في شفافيتها. يتحول إلى لمسة ضوء، أو نسيج من نور راسماً سطوح منحوتته الرخاميّة، ليكون هو هذا السطح الساكن بين الكتلة والفراغ».
بل ذهب عبد الرحمن أبعد من ذلك في عشقه لهذه الخامة التعبيريّة الطبيعيّة النبيلة، الصعبة، والجميلة التي تستكين بين يديه , وتنقاد لأدواته، فلا يجد بداً من أن يسكن ما استنهض فيها من تكوينات فراغيّة، مودعاً فيها أسرار حبه وعشقه للخامة وللتكوين في آنٍ معاً. وقبل أن يغادر منحوتاته، يعلن بما يشبه البوح، أن شيئاً آخر من أعماق داخله، لا يعرفه، ولا يستطيع ترجمته إلا بالأزاميل، تركه فيها. شيء يتملكه ولا يدري كنهه، لكنه يدفعه للمضي بعذوبة وسعادة في تعاطي الإبداع الذي لا يهدأ حراكه في داخله.
غموض مطهم بالسحر
وهكذا يتابع عبد الرحمن سفره السعيد البهي، فوق سطوح منحوتته الهندسية المجردة الناهضة في فراغها، بألفة و جمال ورشاقة وغموض مطهم بالسحر، ذلك لأنه حين تطلق المنحوتة «كما يؤكد عبد الرحمن» مشاعر وأحاسيس النحات، وتحرر القيم الجمالية الكامنة في داخله، تاركة لخياله حرية التجوال، ولعواطفه التوهج. حين ينشأً هذا الحوار بين النحات والخامة الصلدة الحرون الناهضة بين يديه، يلتقي بذاته وهي أكثر نقاءً وعذوبة. لكن عبد الرحمن يستدرك مؤكداً، أنه ليس كل ما يخرج من بين أنامل النحاتين هو هكذا، وإنما يقتصرعلى الرخام المعجون بعواطف الفنان وأحاسيسه، والمشكّل برغبته وخبرته، والمشع بعوالمه وفكره ورؤاه.
الكثير من هذه الرؤى والمعاني، يضمنها عبد الرحمن في منحوتته، وتالياً يضعها أمام المتلقي، مُصاغةً بروح تكعيبيّة هندسيّة حاضنة لأصول النحت وقيمة الصحيحة، ومنجزة بكثير من الأناة والصبر. وهو لا يتصدى لخامات النحت ومواده الصعبة كالحجر والرخام والبرونز فحسب، بل لقيمه العظيمة أيضاً. هذه القيم التي يتفاعل معها، ويدرسها ويضيف إليها، وصولاً إلى إنجاز منحوتة معاصرة، تغازل الفراغ المحيط بها،بحضور بهي مُعبّر، تؤديه سطوح كتلها المستمرة بسلاسة، والمتصلة ببعضها البعض، بوساطة سطوح أخرى، مدروسة بعناية.
خصائص ومقومات
متانة اتصال سطوح منحوتة عبد الرحمن. استداراتها الموحية بالتكعيب يأتي من الداخل. الإضاءة الواسعة لسطوحها وكتلها. متانة العلاقة بين الكتل المشكّلة لها. الإحساس المريح باستقرارها وتوازنها وحركتها في آنٍ معاً: خصائص تُميز منحوتة عبد الرحمن مؤقت، وتؤكد وقوفه على أرض صلبة مكونة من الموهبة والخبرة والسيطرة الكاملة على الخامة وأدوات التعبير.
في خط موازٍ، وكما يقول: «يمتلئ رأسه كل ليلة بضجيج الأفكار الجديدة، وحركة الأعمال المتزاحمة المتوالدة» لكنه يعترف ويقر في الوقت نفسه، بندرة الأفكار التي يمسك بها، وقلة الصور المتوالدة التي يترجمها إلى أعمال فنيّة.
من المؤكد أن عبد الرحمن مؤقت، غرف الكثير من المتع المتلونة النكهات، أثناء معالجته لكتله الفراغية الحاضرة بقوة وبهاء في الفراغ، والمكتنـزة على جماليات مسربلة بالغموض المحرّض للخيال، المطلق للرؤى، لكنه في المقلب الآخر، تنبه فجأة، إلى حقيقة عمره الذي امتد أمداً من الدهر، وإلى تجربته النحتية التي أعيته، والى احتراق أنفاسه المتلاحقة المتوزعة على مئات من كتل الرخام، المزروعة في أماكن عديدة من العالم.
أعمال عبد الرحمن هذه «وباعترافه» صاغت عالماً ثلاثي الأقطاب: جمال العقل. شفافية الروح. ودفء العاطفة. وبحيويّة الحركة، وبإيقاع الكتلة والفراغ، تتجاور الأبعاد ... كل الأبعاد!!
إنه النحت العظيم: هذا الذي لا يختبئ خلف سحر التقنية الماكر، ولا يتقزم في التجريب المفلوش والكسيح، ولا يعتمد على الصدفة الهشة، واللعب المفضوح، والبهلوانيات الاستعراضية المريبة. بل النحت الذي قُدّ من القيم الفنيّة العظيمة المتراكمة عبر مسيرة الفن الطويلة ,من قبل موهبة أصيلة، تسلحت بالمعرفة، وتحصنت بالخبرة، وتعمدت بفيض الروح وتوقدات الشعور.موهبة سكنت نحاتاً يعرف جيداً، كيف يجعل الرخام الميت ينبض بالحياة!!.
«تشهد صالة «تجليات» للفنون التشكيليّة بدمشق معرضاً للفنان عبد الرحمن مؤقت اعتباراً من منتصف آذار الجاري».