يتبادر إلى ذهني أن الدكتور الرملي لم يوفق في اختيار «مجال» سؤاله, فالشعر عندما يترجم يفقد شيئا ما تمنحه إياه كل لغة, ويكاد يكون من المستحيل تجسيده في لغات أخرى.
وينسحب الأمر نفسه على الغناء, الذي يعتمد على الشعر بنوعيه الفصيح أو الزجل, وينبغي وجود سوية رفيعة من الموسيقى المصاحبة للغناء من أجل تلطيف سوء فهم الشعر المغنى.
لا أعرف أي أم كلثوم قدمها الدكتور الرملي إلى أصدقائه الأجانب, فلقد مرت كوكب الشرق بمراحل تنوعت في سوية أدائها. فهل أسمعهم تلك الأغنية التي لحنها المجدد العظيم القصبجي في 1928 قبل أن تصبح أم كلثوم كوكب الشرق؟ هذه الأغنية التي اختارتها إذاعة فرنسا الثقافية يوم احتفائها منذ سنوات بذكرى رحيل كوكب الشرق وضاهتها بصوت ماريا كالاس مغنية الأوبرا الشهيرة, وهي «إن كنت أسامح وأنسى الأسية» حيث تألق القصبجي في استثمار أوتار حنجرة أم كلثوم التي تألقت في أدائها أيما تألق, هذا التألق الذي امتد من «إن كنت أسامح» إلى «رق الحبيب».
أعرف أوروبيين «يتفاعلون» نوعا ما بأغنياتنا المشغولة بإتقان, والتي تعتمد شكلا متطورا للفرقة الموسيقية, وتستفيد من أساليب الكتابة الموسيقية الغربية من «هارموني» وطباق وتوزيع بخاصة إذا كانت قصيرة زمنيا, كما أعرف من لا يريدون الاستماع إلى الموشحات العربية إلا في صياغتها «الخام» القديمة, التي لم «تعالج» بالوسائل الحديثة, وللناس في ما يعشقون مذاهب. وفي تقديري أن أكثرية «الغرباء عما يعجبنا» لن تعجبهم مطولات أم كلثوم التي استشرت منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين, حتى تجاوزت الثلاثين «معلقة» بخاصة ما لحنه الموجي وبليغ حمدي وسيد مكاوي, دون أن ننسى أكثرية المطولات التي لحنها لها عبد الوهاب, فهذه أعمال مملة وسطحية وخالية من التجديد الأصيل, من وجهة نظري.
ثم, هل يظن الدكتور الرملي أن أكثرية جمهورنا يعجبها ما يعجبهم في الغرب شعرا وغناء؟ وهو يعرف حتما أن قراءة أي شاعر في لغته الأصلية-لمن يعرفها- وقراءته مترجما إلى لغة أخرى, لا تترك الإعجاب به على سويته الأولى. كذلك كم عدد الذين يستسيغون الأوبرا في عالمنا العربي, وطريقة الغناء من «الرأس» كما يقول أهل العلم بهذا الفن؟
إن التوصل إلى الإعجاب المتبادل بين الثقافات في مجال الشعر والغناء بحاجة إلى تأمين ظروف موضوعية تتيح له الانتشار في غير بيئته الأصلية, وليس هذا الأمر بيسير.
أود أن أتوجه إلى الدكتور الرملي بسؤال إضافي: لماذا لم تختر الفن التشكيلي مثلا لمعرفة رأي الأجانب بما قدمه فنانونا من لوحات ومنحوتات وغيرها من أعمال كالخط العربي. لماذا لا نعرف رأيهم بالروايات العربية المترجمة إلى لغاتهم؟ إن هذه منتجات «ملموسة» بمعنى وجود «معايير مشتركة» بين الشعوب كلها تصلح للحكم عليها. أما الطلب من الأجانب الإعجاب ببعض الشعر وبعض الغناء العربيين, ففيه ظلم «لهما أولا».
يعرف الدكتور الرملي بالتأكيد, كم روج مثقفونا أن العمل الفني كلما أغرق في «محليته» وخصوصيته كلما زادت حظوظه في بلوغ «العالمية», ألم تر أنهم يصبحون مع «العولمة» إذا قبلتهم في جحيمها؟ انطلاقا من هذه القاعدة الذهبية, هل لي أن أقترح على الدكتور الرملي القيام بتجربة على مستمعيه الغربيين يسمعهم فيها «الحاصودة» فهي مغرقة في محليتها, ولن تجد ما يعيق انتقالها إلى العالمية, وعندنا من الفنانين المرموقين من أعطاها وثيقة اعتراف بعالميتها, فهي أي الحاصودة وصلت ذات يوم إلى استراليا, غير أننا لم نعرف على وجه الدقة رأي «سكان البلاد الأصليين» لأن الإعلام لم ينقل إلينا إلا آراء «المهاجرين» العرب الذين كانوا وحدهم من تذوقوا تلك الوليمة الدسمة.
بوسع الدكتور الرملي عدم الاكتفاء بالحاصودة, ففي الغناء الخليجي والشعر النبطي ما يكفي لإقناع الذين لا يعجبهم ما يعجبنا, بأنهم على حق.