ليس لأنه كان يناقض نفسه وهو في موقفه المضاد والمزعوم للشعر، وإنما لأنه كان يمارس الدور الأمثل للأدب. لقد كان ينشد المثل وهو منطلق من الواقع، كان يدقق في الواقع وأمام ناظريه تتراءى مُثُله. كان فيما يعتمده فلسفياً على دراية ملحوظة بالدور العظيم ل
لأدب: ملح الفلسفة، المرآة التي تهب الناظر الفلسفي بهاء الوجه وابتسامته.
قبله «منذ طاليس على الأقل، وهو في نظرته المائية إلى الكون»، وبعده» الذين اتخذوا رؤى مختلفة إلى ما حولهم». في الطرف الآسيوي الآخر، كان الحكيم كونفوشيوس يسعى إلى مقاربة خفايا العالم بالتأمل، كان ذلك تأكيداً مختلفاً على المتخيل، على شفاعة الأدب في تسيير شؤون الذات ومستجداتها التي تتنوع كما هو ثراء العالم.
صحيح أن الكندي بدوره، وهو في تأرجحه بين قدم العالم وحدوثه، يعاين مكانة الإلهي في العالم وبأي صورة، كان ثمة أدب جم يحفّزه على بناء تصورته، وفلسفة مفاهيمه المجردة» ليس الأدب بالمعنى التهذيبي للذات أو الأخلاقي، إنما بمعنى المضيّ بالذات إلى عالم المتخيَّل وتصور العلاقة بين الأيس والليس آنداك» الوجود والعدم»، لتكون الفلسفة في أبهة حضورها ناطقة بأدبها، لتكون إبداعاً ما، قبل أن تكون صنعة مفهوم.
الفلسفة لم تستطع طوال تاريخها المديد إزاحة الأدب عن طريقها» إنها تعدم حقيقتها بذلك»، مهما بدت موغلة في التجريد، حتى لو تذكرنا مواقع أكثر الشخصيات المفهومية الفلسفية تجريداً» كانط- هيغل- هيدجر». إن التجريد هو حيلة من حيل المفهوم الفلسفي في التعريف بنفسه، في المسافة الفاصلة بينه وبين الحسي، وفي الوقت ذاته، في بسط سيطرته على قدر أكبر مما يخص الحسي. إن أقصى التجريد لقاءٌ بالمشخص، ورفع للكلفة بين التجريد ومهاده الواقعي في لعبة الفيلسوف الكبرى. الحسي ذاته ينطوي على سر باذخ للتجريد، على وديعته حين يحلّق عالياً باسمه» كيف نفسّر في هذا المجال شغف هيجل بالفن، إن لم يكن ثنائي القلب جامعاً بين الأدبي والفلسفي؟».
الأدب والفلسفة، والبروتوكول المدشَّن حديثاً
ليس في وسع أيٍّ كان، دخولَ العصر الحديث، وقراءة أي نص فلسفي دون مكاشفة أدبية بطريقة ما.
تستعيد الفلسفة أمجادها الحية من خلال استعادتها لأمجاد ماضية لها، استعداداً للدخول في عالم مختلف، إنها تلك التعويذة التليدة، وهي تأكيد حضورها المستقبلي بتسمية عراقتها كما لو أنها تمارس سرداً تاريخياً، ويكون الأشخاص مفاهيم قائمة، ولكن ثمة دعامة خفية لها، تلك التي تأتي من جهة الأدب الحي: الشعر بامتياز.
لنتساءل هناك: أي سر في لجوء نيتشه إلى رعاية شجرته الفلسفية وسط عاصفة هوجاء، هي بلاغته التي يسمّيها الأدب؟ أي حكمة في اعتبار الأدب رقية الفلسفة، في عموم كتبه؟ ربما كان التشديد على التراجيدي، وما لهذا المفهوم من قيمة أدائية وإرسالية للمعنى واستشراف الفضاء المسرحي اليوناني، أسلوباً أمثل لوعي الكينونة وسط فورة بركان جغرافي يعمُّ ألمانيا، يكون "الضحايا" هم الألمان بالدرجة الأولى، لتكون الأضحيات أبعد من كونها رمزية كما هو جنونه فاعل الأدب في مفعول سرعان ما زحزح لسان حاله ليكون الفاعل، ربما هي أوربا في الجوار تالياً، حيث الأدب يستجيب للعبة الأقنعة أكثر، أما الفلسفة فتضفي عليها أصالة وكأنها حقيقتها.
أما عن مفهوم الخطاب ووجوهه الألف عند فوكو قبل كل شيء كما في « نظام الخطاب- أركيولوجيا المعرفة»، فليس من داع للوقوف مطولاً عند مرجعيته وكيف تشكلت، حيث الحراك التأويلي لافت في المفهوم ذاك وهو يقودنا إلى الأعماق، أي إلى المتواري عن النظر: جهة الحقيقة وما يخص إرادتها، أي ما يتعلق بالنص الفلسفي كجسد موشوم من الداخل بدلالات أدبية. هذا ما يمكن تلمسه في نتاج دريدا الأكثر مزجاً بين الفلسفي والأدبي، حتى ونحن نقرأ « في علم الكتابة- الصوت والظاهرة- الكتابة والاختلاف..»، أما التوسير القريب مما هو ماركسي تصوراً مع فارق الرؤية، فإن كتاب» قراءة المال» الحافل بالمتخيل الأدبي يشهد على ما تقدمنا به، وفي أمر دولوز، يكون الحديث عن " الطية" و" السطح" و" الجذمورrhizome" تعزيزاً للفلسفة صحبَة الأدب.
لقد كان الشعور المأسوي بالحياة، وهو في علامته الأدبية، فاعلاً اسطرلابياً في تبين واقعة الفلسفة في الزمان والمكان، كان ثمة حكاية ما تترك أثرها في وضح النهار، وراء كل نص فلسفي. إنه شعور كوني تبعاً لمعايير ثقافية، لتجنيس لا يمكن مصادرته في التعميم هو أصل من أصول نشأته، حيث المثال يكون الكائن المعافى الناطق، مهما أوغل في التجريد» أليس بالإمكان قراءة : جمهورية أفلاطون، كنص أدبي؟ وهذا ينطبق على" المأدبة" وأعماله الأخرى!»، والجمهرة الكبرى من الفلاسفة مثقَلون بالهم المأسوي الطابع، بمصير الكائن حيث تبرز الدمغة الأدبية مؤاساة ووعداً بأدبية ما، عبر فعل التطهير الذي يعيشه الفيلسوف في صمت هذا الذي يتقدم مثالاً ذاتياً في كتابة نصه، وكأنه أضحية فلسفته ليكون أكثر قابلية للقراءة، وعلى مضض ٍلحظة التعمق فيه لاحقاً.
ربما أمكنني القول هنا، أننا فيما يخصنا من فلسفة، غلَّبنا الأدب كثيراً، بالمعنى التقويمي أو التهذيبي للذات، على الأدب بالمعنى الإبداعي- الذاتي، أو الكينوني الأكثر حرَّيةَ شخصية ٍ، حيث يتراوح هذا المفهوم بين المعنى الإرشادي ضمناً» عند الكندي والذين جاؤوا من بعده، وليس انتهاء بحسن حنفي والجابري وطيب تيزيني..»، والمعنى الأدبي، وهو الأقل بما لا يقاس، والذي يصعب إيجاد أمثلة له في الساحة الثقافية العربية راهناً» ربما كان علي حرب مثالاً جديراً بالتنويه، لكن حضور الآخر الفلسفي: الفرنسي خصوصاً، يبلبل مفهوم التمايز لديه»، دون أن نغفل لحظة واحدة، المقصد الفكري والسياسي في الكتابة عند أيٍّ ممن ذكرناه هنا وهنا.
قضية الكتابة الفلسفية وهي في مَعلَمها الأدبي قضية وعي ذات من جهة إمكان الحرية في العالم ككل وليس في محيطها المحلي أو الإقليمي فقط ومراعاتها، لا قضية التمثيل الجمعي لعالم ما وباسم ذات لم تع حقيقتها بعد.
وصولاً إلى النقطة هذه ومقابلها، ربما نجد أنفسنا إزاء ثنائية المفهوم في الفلسفة، ثنائية انقسامية لا تبشر بخير، وبنوع من القدرية، إذ يتم الفصل بين فلسفة وأخرى وما يقودنا ذلك إلى وضعية تراتبية منفّرة لدى المعنيين بوحدة الفلسفة، أي اعتماد نزعة عنصرية في قراءة للفلسفة عبر تاريخها الطويل! إنه بحث آخر لا مكان له في موضوعنا بما أنني أتحدث عن أسماء لا عن ثقافة كاملة، عن طريقة التمثيل للفلسفة أولاً وأخيراً وأي حوار يعرّف بها، أتحدث عن" أنا" خاصة بالفلسفة تتفاعل مع وجودها الزمني المديد، وتتحدث عن حقيقتها دون خوف، لأنها تكون في اللحظة تلك قد وطأت عتبة العالم، إنها قضية" الـ: أنا" المتداولة أخلاقياً في وسطنا لا تلك المتعلقة بتمايز الذات أدبياً، قضية تاريخ طويل ومتشعب، تفيدنا قراءته في استشراف أوجه الاتصال والانفصال بين الحالتين، لا بل بيننا عموماً وهذه الفلسفة التي لما تزل غريبة بأكثر من معنى عن اسمها، بين فلسفة جهادية لغيرها وارتيادية لذاتها وباسمها!