نعود من جديد الى لغة السخرية، لنتناول الأسلبة اللهجوية، آلية ساخرة ثانية، تلتقي مع الاقتباس اللهجوي الذي تطرقنا اليه في مكان سابق «الملحق،العدد 679» والذي غالبا ما يترافق معها ويشكل أحد مقوماتها.
فالأسلبة اللهجوية هي محاكاة أسلوب كلام الآخر او لهجته، بالمعنى الذي أُستعملت فيه تسمية «لهجة» في كلامنا على الاقتباس. والآخر المؤسلَبة لهجته هو عادة من يتكلم عليه المؤسلِب «الكاتب، السارد او متكلم ما» او من هو معني، بشكل او بآخر، بهذا الكلام. وتقوم الأسلبة بأن يبني السارد سرده او كلامه على خصائص أسلوبية تتميز بها لهجة من يتكلم عليه، وبشكل يسمح للقارئ، وبقدر ما تؤهله ثقافته، بأن يتبيّن ويتحسّس تلامس صوتين في الكلام المؤسلَب: صوتَ السارد المحاكي والمؤسلِب وصوتَ المسرود عنه المحاكى والمؤسلَب. وينتج عن ثنائية الصوت هذه صفتان تلازمان وجوبا الأسلبة اللهجوية: الهجانة والحوارية، وفق المنظور الذي بُسط فيه هذان المفهومان البختينيّان في كلامنا على الاقتباس.
وليست الأسلبة واحدة من حيث الحجم. فقد يُبنى النص بكامله على أسلوب الآخر، وقد يقتصر الأمر على جملة، وحتى على تركيب بسيط، يُنثران هنا وهناك في النص. فيحرص المؤسلِب، في الحال الأولى، أن يقدم عمله بصفته هذه، اي بصفته محاكاة أسلوب هذا او ذاك، فينوّه، في الوقت ذاته، بالمستهدف من هذه المحاكاة. وهذا ما يُناط عادة بالعنوان، كأن يُقال: «قصيدة ماغوطية»، «محاضرة ادونيسية»، «خطاب حماسيّ»... كما أن عنوانا مثل «سهرة مع أبي خليل القباني» يدخل في باب التنويه ذاته.
ولا تكون المحاكاة ساخرة بالضرورة هنا، وإنْ اتسمت، في أحيان كثيرة، بطابع دعابي لعوب. فقد تقترب من الإعجاب او التعاطف او التكريم... ومعلوم أن الروائي الفرنسي مرسيل بروست، مؤلف البحث عن الزمن المفقود، كتب نصوصا بأكملها، يحاكي فيها أسلوب هذا الكاتب او ذاك، وفي مقدمتهم فلوبير. وكانت أسلبته لهذا الكاتب الكبير تعبيرا عن إعجاب وإكبار. ومعلوم ايضا أن سهرة مع أبي خليل القباني لسعد الله ونوس «عرضت لأول مرة في دمشق سنة 1974»، المبنية، في جانب كبير منها، على خصائص أسلوب مسرح أبي خليل القباني، هي تكريم لأبي المسرح في سورية، واعتراف بريادته.
غير أن المحاكاة الساخرة هي الأكثر شيوعا. ولنا مثال معبر في الملف الذي خصصه الملحق «العدد 673» للأدب الساخر في سورية: إنه نص «ندوة فكرية» الذي استشهد به الشاعر الساخر غازي أبو عقل وأدرجه كاملا في مساهمته في هذا الملف.
على كل، سواء كان النص – المحاكاة ساخرا ام لا، فإنه يُقدَم للمتلقي بصفته محاكاة وأسلبة: العنوان الذي يحمله يشير علنا، كما ذكرنا، الى طابعه الثنائي الصوت، فيضع المتلقي، منذ اللحظة الأولى، في إطار الثنائية هذه وكل ما يتلازم معها من هجانة وحوارية. من البديهيّ أن تختلف الأمور من متلقٍ الى آخر: فقد تؤهله مكتسباته العلمية والثقافية أن يتميّز الصوت المؤسلَب، وقد لا تساعده. إنما إطار الثنائية الصوتية الذي وُضع فيه يحمله على أن يفترض هذه الثنائية افتراضا، وأن يدخل اللعبة بشكل او بآخر.
الأمر يختلف كليّا عندما تقتصر الأسلبة على جملة من هنا او تركيب من هناك، او علي بضعة اسطر يُرمى بها في هذا الموقع من النص او في ذاك. فهنا، لا ينوّه الكاتب بالأسلبة التي يقوم بها، ويترك القارئ يتدبر أمره بنفسه، مما يتطلّب من هذا الأخير مزيدا من الانتباه وضرورة أخذ معطيات السياق وغيرها بعين الاعتبار. أهم هذه المعطيات أن يقدم النص نموذجا عن الكلام المؤسلَب، فتكون الأسلبة قائمة، والحال هذه، على علاقة حضور مع الكلام المؤسلَب؛ او ان يكون هذا الأخير كثير التداول، كالأمثال والشعارات والكليشهات؛ او أن تكون اللهجة المؤسلَبة لهجة شخص نموذجي، كأن يكون عالما او حاكما اونبيّا او شاعرا او دجالا...، على أن تكون اللهجة الملتصقة به بمثابة بصمة تُعرف بها شخصيته .
سنحاول الآن أن نرى عن قرب نموذجا سرديّا في الأسلبة اللهجوية، وسيقتصر الأمر عليه، لضيق المكان.
نموذج روائي في الأسلبة اللهجوية
النموذج الذي سنتناوله مأخوذ من جنة عدم لفائزة داود «2008، منشورات وزارة الثقافة، دمشق». إنه بالأحرى عنوان الرواية تحديدا.
العنوان هو أسلبة بحدّ ذاته. فمن الصعب أن نقرأ «جنة عدم»، او نسمع به، دون أن نستحضر على الفور «جنة عدن»، ونجد أنفسنا، بالفعل ذاته، أمام صوتين يدحض أحدهما الآخر: صوت الكاتبة او من تمثله يدحض صوت من يأخذ بمقولة جنة عدن ويسخر منه. قد يكون الصوتُ، موضوعُ الدحض، صوتَ أحد شخوص الرواية، وقد يكون صوتَ المقولة ذاتها التي تدخل في تركيب المعتقدات او في بنية الأحلام والأمال والمثاليات... كما قد لا يكون الصوت الداحض ايضا صوتَ الكاتبة حصرا، إنما صوت أحد شخوص الرواية، وقد اقتبست عنه مقولته التدميرية هذه. وقد...، وقد... الأمر ليس بذات أهمية كبيرة هنا: الوقوف على ما يدور في الرواية كفيل بان يعطي إجابة وافية عن هذه الأسئلة. المهم أن الأسلبة بارزة جدا، بدرجة أنها فرضت على القارئ ثنائية صوتها وطابعها الهجين والحواري، حتى بمعزل عن قراءة الرواية.
ومقوّمات الأسلبة متعددة، وإنْ بدت بسيطة للوهلة الأولى. فتركيب «جنة عدم» بُني على تركيب «جنة عدن»: كل منهما يتألف من مضاف ومضاف اليه. المضاف «جنة» هو اقتباس حرفي عن المقولة المؤسلَبة «جنة عدن». ودور الاقتباس مزدوج هنا. فعلاوة على أنه عنصر أساسي من عناصر الأسلبة والمحاكاة، فإنه يرسم إطار المفاهيم التي يتقابل على أساسها الصوتان المتحاوران. لا بل إنه يضعنا مباشرة في قلب الموضوع الذي تجري في نطاقه حوارية الصوتين، وذلك لسببين: كون الاقتباس اقتباسا حرفيّا، كما ذكرنا للتوّ، وكونه أتى في الموقع النواة من التركيب، الموقع الذي يُسمى في لغة القواعد «مبتدأ». ومع أن كلمة «جنة» مستهلَكة الى درجة الابتذال، فنجدها ملصقة هنا وهناك في الشعارات وفي الإعلانات، فنقرأ بكلل وملل: «جنة الأطفال»، «جنة الطيور»، «جنة الزهور»، «جنة الوادي»...، إلاّ أن اقتباسها في «جنة عدم» نفض عنها صدأ الابتذال هذا، وأعطى الكلمة كل أبعادها ومعانيها، وذلك بفضل لمسات أسلبة خفيّة.
فاسم «عدم» يتجانس لفظا مع «عدن» تجانسا شبه كامل. الاختلاف الوحيد بينهما هو في مخرج كل من الميم والنون. وهو اختلاف طفيف جدا: مخرج الميم الشفتان، والنون ما وراء الشفتين مباشرة: طرف اللسان ملامسا الأسنان. هذا التجانس يجعل من «عدم» ندا قويّا ومباشرا لـ «عدن»، مؤهلا لأن يملأ موقع «عدن» ملأً تاما وأن يبعث بكل الدلالات التي تجمعه بكلمة «جنة»، الأمر الذي ما كان ليحصل لو لجأت الكاتبة الى أسماء مرادفة لـ «عدم»، كأن تقول مثلا: «جنة الانحطاط» او «جنة انحطاط»، «جنة اجرام» «جنة بؤس»، «جنة جهل»...
ثم إن اسم «عدم» استُعمِل في صيغة النفي، مع أننا نفقهه وكأنه معرفة. وهذا ما أرادته الكاتبة فعلا، عندما اختارت ألاّ تعرّفه بأداة التعريف «الـ»، فصاغت «جنة عدم»، وليس «جنة العدم». فغياب «الـ» التعريف هنا يجعل التطابق كلّيا بين «عدم» و «عدن»، وكأن اسم «عدم» اصبح اسم علم، معرَّفا بذاته، يحيل الى كيان مستقل، قائم بذاته، يتلوّن في المخيلة بألف شكل ولون؛ قد يكون حقيقة، وقد لا يكون؛ ولكنه وُجد لأن عدن وُجدت يوما ما، في مكان ما، او في مخيّلة ما.