فالتاريخ لأي أمة ليس عملية تدوين للوقائع الماضية، وتسطير أحداثها في مجلدات، فإذا كان تدوين التاريخ مرحلة فإن عملية قراءة التاريخ أو ما يسمى ( التأليف التاريخي البحثي هي المرحلة الأهم لأنها مرحلة إعادة القراءة، وبناء الفهم، وإعادة التبصر بالمكون التاريخي، واستنتاج عبره.
إن عملية قراءة التاريخ ليست عملية لأجل الماضي، وإعادة إنتاجه ، وتزيينه، بل هي عملية حضارية تدخل فيما يسمى عملية النهوض، والتنوير، والتصحيح، والتصويب، وإنتاج الحاضر مستفيدين من عبر الماضي، ومحيط الحاضر، وما يعنيه ، وما يتطلبه، ومن ثم التخلص من الكثير من الإرث الثقيل الذي يطوّق الحاضر، ويشده إلى الوراء، ويعيق انطلاقه الإيجابي.. إن ارتقاء الدراسات التاريخية وجرأتها وتسليط الضوء على البؤر الإيجابية والحضارية، والعقلية ، والإنسانية ، في هذا التاريخ، وإعادة تشكيل محتوياتها الفكرية، والثقافية ، هي جزء هام من إعادة قراءة التاريخ وبنائه في ثقافة الحاضر، وتطوير قراءته.
يرى بعض الدارسين أننا لم نحسن قراءة تاريخنا، ولا الاستفادة منه، وإن أحد أهم مشكلات ما قدم من قراءات لجوانب فيه كانت تحمل التبسيط، والتسطيح، وإقحامه في كل شيء. تجلى ذلك في نمطين من القراءة الأولى هي: الاتكاء عليه، وبث الأمل بالنهوض اتكاءً وأملاً. وقراءة ثانية ترى ضرورة تجاوزه،وهذه تقرؤه بمعايير التخلف، وما هوسلبي وأنه تاريخ حروب ، وصراعات.. وكلا القراءتين تظلمان هذا التاريخ.. فتاريخ أي أمه يحمل الإيجابي، والسلبي في طياته لأن حركة التاريخ هي حركة الناس، بأهوائهم، ومصالحهم، وقواهم الاقتصادية، والعسكرية، وبالجانب الآخر حراك المفكرين، والأدباء ، والمتنورين، والمصلحين، وغير ذلك.. وهنا مشكلة القراءة، والحاجة/البحثية/ في التخليص ، والفرز، وما يقتضيه ذلك من الدقة، والموضوعية، والدراية، والبعد عن الهوى الايديولوجي، أياً كانت جهته الفكرية، أو الدينية، أو السياسية.
فلا تقديس التاريخ، والماضي يفيد، ولا رفضه، وادعاء القطعية معه ينتج حلاً.. لأن الحالين في التحليل الموضوعي الدراسي ليسا عملاً. تاريخياً/ بالمعنى العلمي ، والعقلي، والحضاري، والتحليلي.
يقال: إنه منذ ظهور العالم التاريخي الكبير/ ابن خلدون/ لم تنشأ مدرسة تاريخية عربية تتابع النهج التاريخي المجتمعي الذي بدأه ابن خلدون،واعتبر/ ابن خلدون/ استثناء..
لاشك ظهر، ويحضر اليوم العديد من المؤرخين الذين يحسنون القراءة الحضارية، والمعرفية، والعقلية العلمية للتاريخ. وإن كانوا لا يشكلون مشروعاً، أو مدرسة قادرة على إنجاز مشروع قراءة التاريخ العربي لأن ذلك يحتاج مؤسسات تملك مشروعها، وحيادها بالنسبة للنظام العربي القطري ومصالحه، وما يريد كل منه قراءة الحدث الحاضر ، والتاريخ، وتوظيفه.
تنتمي دراسة التاريخ لما يسمى الدراسات الانسانية، والمصطلح مرن،والأحكام فيه تحمل نسبيتها، لا مطلقها، والتاريخ مركب، ومتحول، وقراءته هي قراءة في التحولات الانسانية، وزمانها ، سواء أكانت تحولات /الجماعات / أم الافراد. والحدث التاريخي يقع مرة واحدة، ويستحيل إعادة إنتاجه، وكتابة التاريخ وقراءته هي استجابة لرغبة الانسان في أن يعرف نفسه، ويعرف الآخر، والماضي، والمحيط.
إنه دراسة أحوال الناس، خياراتهم، وقيمهم، وكيف كانت رؤيتهم للواقع، وللعالم...وأن كل شيء متغير، والتاريخ يقرأ للعبرة، والعظة كما قلنا.
قراءة التاريخ تكون من زوايا مختلفة يتم فيها استحضار التجربة الانسانية في مرحلة ما وتفسيرها، وإعادة بنائها لربطها بالحاضر بشكل يستطيع الجيل أن يستفيد منها.
وفي قراءة التاريخ تقرأ الحقائق التي صنعت هذا التاريخ، وهذا يحتاج التدقيق، والتوثيق، ومعرفة الدوافع والمشاعر، والأحاسيس والأسباب التي انتجت تلك الحقائق، وهذا ما يسمى(التحليل التاريخي)لاكتشاف العلاقات الجديدة في التجربة التاريخية للمرحلة، أو الجماعية الانسانية المدروسة.
قراءة التاريخ، واستبصار معانيه من أهم مواد الثقافة،وعناصرها في أي خطوة نهضوية.. قراءة تاريخ الاوطان، والأمة، وحتى التاريخ العالمي بعناوينه الكبرى ، وأهدافه الكبرى.. إنها ثقافة قراءة التاريخ، والثقافة ليست الاجناس الادبية، والسياسية، والفلسفية، فقط بل التاريخية منها... وهي كلها عناصر مكونة لثقافة الافراد، والجماعات و الشعوب.
فلنقرأ تاريخنا، ولنعد القراءة بعقل معرفي ونقدي، وهذا مشروع وطني، وقومي.