تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


ماري في قصر العظم

إضاءات
الثلاثاء31-7-2018
سعد القاسم

ليس بمستغربٍ ذلك الصدى الواسع والمستمر للحفل الذي أحيته أوركسترا ماري في قصر العظم بدمشق، خاصة بعد أن قامت قناة سورية دراما بعرض تسجيل الحفل للجمهور العريض. فهذا الصدى هو أولاً انعكاس طبيعي للسمعة الرائعة التي تحظى بها فرقة العازفات السوريات البارعات بفضل جديتها وخصوصية برامجها،

وهو ثانياً تعبير عن التوق للفرح على عتبات انتصار السوريين على حرب مجرمة شنت عليهم على امتداد أكثر من سبع سنوات، كانت الثقافة والفن بعض استهدافها، وبقيت فيها الأوركسترا تواجه بشجاعة كل التحديات.‏

اختارت الأوركسترا أن تقيم حفلها الأحدث في قصر العظم بدمشق. وقصر العظم، كما هو معروف، يقع في قلب دمشق القديمة على مساحة تزيد على خمسة آلاف وخمسمئة متر مربع، ويقسم إلى جناحين رئيسيين: أحدهما مخصص للنساء، والآخر للضيوف، شيده والي دمشق (أسعد باشا العظم) عام 1749 مقراً لسكنه، و يذكر (البديري الحلاق) في مذكراته أن الوالي (جلب عواميد الرخام من (بصرى) وخرب (سوق مسجد الأقصاب) واستولى على كل ما فيه من أحجار وأخشاب، وكلما سمع بقطعة أو تحفة من رخام أو قيشاني يرسل فيأتي بها إن رضي صاحبها أو أبى)، وعلى هذا فإن هذا المبنى العريق لا يحفظ اسم والي دمشق، وإنما يوثق لبراعة وإبداع المعماريين السوريين قبل نحو ثلاثة قرون، خاصة بعد أن تم تحويله عام 1954 إلى متحف (التقاليد الشعبية). ويضم المتحف شخصيات من الجص بالحجم الطبيعي قام بتصميمها الفنان الرائد (محمود جلال).‏

حمل الحفل عنوان (روح الفرح)، وقد نجحت أوركسترا ماري فعلاً في إدخال روح الفرح إلى قلوب حضور الحفل، ومشاهديه على شاشة التلفزيون. كانت هناك عدة أسباب لهذا النجاح أولها البرنامج الفرح والرشيق والمتناغم للحفل، وثانيها المكان الذي يدعو للفرح وانتعاش الأمل، أما ثالث الأسباب فيكمن في المفاجأة الرائعة التي تمثلت بقيام قائد الفرقة رعد خلف بالمشاركة في إحدى الفقرات كعازف كمان منفرد، وهو ما اشتقنا إليه منذ سنوات طويلة تفرغ فيها لمشروعه الموسيقي في التأليف وقيادة الفرق، وركن العزف جانباً، رغم كونه أحد أبرع عازفي الكمان في الوطن العربي، برأي النقاد العارفين، وبرأي الجمهور الذواق، حتى أن الراحل الكبير صميم الشريف وصفه في مقالة منشورة بعد إحدى الحفلات الرائعة للفرقة السيمفونية الوطنية في قصر الأمويين بـ (فارس الكمان). وإلى ما سبق تجدر الإشارة إلى التأثيرات البصرية واللونية التي برع بصنعها مصمم الإضاءة القدير أدهم سفر، وكانت إضافة جديدة جميلة وناجحة من سلسلة الإضافات التي تحرص الفرقة عليها في كل حفل جديد، والتي تعد بعضاً من أسباب نجاحها وتميزها وتجددها واتساع جمهورها، وهو ما كنا نلحظه في الحضور الكثيف لحفلاتها في دار الأوبرا، حيث كانت تمتلئ المقاعد بكاملها على مدى يومي الحفل، وما لحظناه أخيراً من حضورٍ كثيفٍ مماثل في حفل قصر العظم.‏

أوركسترا ماري لا تتميز بأنها الفرقة النسائية الكلاسيكية الوحيدة في المنطقة فحسب، وإنما أيضاً بكونها الفرقة التي تعزف مؤلفات قائدها العبقري، وهي بالتالي تمتلك برامجها الموسيقية الخاصة التي تستجيب لطبيعتها وتوجهاتها، التي لا تتيح لأحد غير مؤلف موسيقاها وقائدها، أن يتوقع أو يقترح برنامج حفلها.‏

والطموح المؤسس على ثقافة موسيقية أكاديمية، ممتزجة باطلاع شخصي واسع على التجارب الموسيقية الشرقية، دفع مشروع رعد خلف الشخصي تجاه إظهار أهمية وغنى كل منهما. فإلى جانب تأسيسه لرباعي دمشق الوتري الذي ترك انطباعاً ساحراً عند جمهور الموسيقا، أسس (أوركسترا زرياب) تيمناً باسم وإبداع الموسيقي العربي الشهير، ليبدأ رحلة أكثر عمقاً وثراءً في التاريخ الحضاري لمنطقتنا. فأعاد - مستعيناً بصنّاع مهّرة - إنجاز آلات موسيقية تاريخية، وترية ونفخية وإيقاعية، استُخدمت في الحضارات القديمة، مستنداً إلى رسومها الدقيقة الموجودة على الآثار التي وصلتنا من تلك الحضارات. وأدخل هذه الآلات إلى جانب الآلات الموسيقية الحديثة في حفلاته التالية بعد أن كتب لها مؤلفات موسيقية خاصة مستوحاة من زمنها، وتوج ذلك في حفل استثنائي حمل اسم (حفل في ماري) لقي صدى رائعاً لدى الجمهور الذواق، ما شجعه على الخطوة التالية البالغة الأهمية، فقدم عام 2004، بالتعاون مع الفنان التشكيلي أحمد معلا، في عرض سمعي - بصري مدهش مؤلفه الرائع (ألواح أوغاريت) منطلقاً من نوطة موسيقية، قد تكون الأقدم في التاريخ (منتصف الألف الثاني قبل الميلاد)، عثر عليها مدونة على رقيم من الطين المشوي في مدينة أوغاريت على الساحل السوري. وفي العام التالي استكمل عمله مع القطب الأخير في مثلث ممالك الحضارات القديمة فقدم عرضه السمعي - البصري الثالث ) ليلة من إيبلا).‏

رغبة رعد خلف في تأكيد مكانة المرأة السورية منذ أقدم العصور دفعته بعد وقت قصير لتأسيس أول أوركسترا مؤلفة من عازفات فقط حملت اسم ماري، المدينة التاريخية التي ترتبط بواحدة من أعرق الحضارات القديمة في العالم، وبصورة مغنية معبدها أورنينا، المحفوظة على شكل تمثال فريد في المتحف الوطني بدمشق. وقد لقيت الفرقة نجاحاً كبيراً في حفلاتها الداخلية ومشاركاتها الخارجية بفضل المستوى المتقدم لعازفاتها، والبرامج الموسيقية الرشيقة التي تقدمها، وحفلها الأحدث الذي نظمته مؤسسة (صدى) امتداد لهذا النجاح، ومحطة انطلاق لنجاحات قادمة.‏

وحدث يحق لمؤسسة صدى أن تفخر به.‏

www.facebook.com/saad.alkassem

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية