|
غياب فاخر العاقل .. رائد علم النفس في سورية «شؤون وشجون» ثقافة ولد أيضاً الطفل فاخر عاقل سنة 1918 لأب كان يعمل مديراً للمال في بعض أقضية حلب، حيث أتم دراسته الابتدائية ومن ثم انتقل مع أسرته إلى حلب وتابع الدراسة الثانوية في مدرسة المكتب السلطاني التي عرفته باسم مدرسة التجهيز والتي أصبح اسمها ثانوية المأمون ، وكانت هذه المدرسة إحدى كبريات المعاهد التعليمية العريقة في سورية العربية، وقد حصل الفتى فاخر على شهادة البكالوريا بقسميها الأدبي والعلمي وبعدهما قسم الفلسفة ثم قصد إلى بيروت موفداً على إحدى المنح والتحق بجامعتها الأمريكية وتخرج فيها بحصوله على درجة البكالوريوس فدرجة الماجستير. وتبعاً لتفوقه على سائر أقرانه أوفدته وزارة المعارف إلى بريطانيا لمتابعة دراسته العالية في الكلية الجامعية بجامعة لندن حيث تخرج فيها حاملاً شهادة دكتور في الفلسفة قسم التربية وعلم النفس. وحين عاد الدكتور فاخر العاقل إلى سورية عين مدرساً في كلية الآداب بجامعة دمشق فأستاذاً مساعداً فأستاذاً ذا كرسي، ثم رئيساً لقسم علم النفس ، وقد انتدب بعد ذلك للتدريس في الجامعة الأردنية ثم في جامعة الكويت، وقد تم اختياره للعمل خبيراً في منظمة اليونسكو حيث أمضى في رحاب تلك المؤسسة الدولية مدة ثمانية أعوام. تزوج الدكتور فاخر ورزق ثلاثة أبناء يقيمون الآن في الولايات المتحدة الأميركية وقد صاحبه في دراسته يومئذ عدد من نبهاء الشبان في حلب مثل عبد السلام ترمانيني وجميل محفوظ وسامي الدهان وأسعد كوراني وعبد الوهاب حومد ونهاد هبراوي وسواهم من صفوة أعلام الشهباء المرموقين في مجالات القانون والأدب والتربية والإدارة والسياسة. كان تأثير الأستاذ الجليل الشيخ بدر الدين النعساني بالغاً في تكوين شخصية فاخر العاقل العلمية، والنعساني أحد رواد الحركة التعليمية في حلب، وهو شاعر جزل الأسلوب وخطيب مفوه، كما أنه متمكن من تراث االلغة العربية، وكانت له مشاركة في تحقيق عدد من كتب السلف فضلاً عن اقتداره في الخطابة وقوة حضوره في حقل التدريس. ومن صور الوفاء وفاء التلميذ لأستاذه أننا حين كنا نزور أستاذنا الالعاقل بين الحين والحين في مسكنه بدار السعادة للمسنين الذي آثر الإقامة فيه في السنوات الأخيرة من حياته، كان لايفتأ يذكر أستاذه النعساني كلما وجد إلى ذلك سبيلاً ويشير باعتزاز إلى تلك الصورة المعلقة في صدر غرفته ويقر بفضل ذلك الأستاذ الجليل المعمم.. ومما رواه لنا فاخر العاقل وهو في فراشه خلال مرضه الطويل أنه سأل مرة أستاذه الشيخ أن يرشده إلى كتاب يعتمد عليه لاكتساب ملكة اللغة والتعبير وحسن الأسلوب فكان جوابه »القرآن« وحين طلب منه المزيد قال أيضاً: القرآن ثم القرآن .. وكان لإجادة فاخر العاقل العربية فضل كبير على مؤلفاته وحسن محاضراته وجودة كتاباته. وقد تمكن فاخر من اتقان اللغة الانكليزية خلال دراسته في الجامعات الأجنبية في لبنان وبريطانيا وأميركا كما كان له إلمام حسن باللغة الفرنسية.. وقد أهله هذا التكوين اللغوي لخوض غمار التأليف المعجمي ومجال المصطلحات العلمية على أفضل وجه من الدقة والاستيعاب . للعلّامة فاخر العاقل ثلاثون كتاباً باللغتين العربية والانكليزية، ثلاثة كتب منها مترجمة. ومن مؤلفاته الموسوعة النفسية في علم النفس والطب النفسي وكتاب الإبداع وتربيته وكتاب علماء نفس أثروا في التربية، وكتاب ما وراء علم النفس..إلخ ثم كان أخر كتاب له هو (معجم العلوم النفسية - انكليزي- عربي، مع مورد عربي- انكليزي) ويقع في 677 صفحة وقد صدر عن دار شعاع بحلب سنة 2003، وهو أجل كتبه وفي طليعة المؤلفات المتخصصة التي يعتد بها في موضوعه. آثر فاخر العاقل الإقامة في دار السعادة للمسنين في مدينة حلب وبقي فيها قرابة عشر سنين بعد بلوغه مرحلة التقاعد، وكان خلال هذه السنين كما كان شأنه طوال حياته يعيش من كد عمله ومما كان لديه من وفر يكفيه ويغنيه عن الاعتماد على أبنائه وهم نجباء وأبرار .. وفي هذا الملاذ الحضاري الهادئ وضمن جناحه المريح كان يمضي أوقاته في الكتابة ومتابعة بعض ما يختاره من الاصدارات الجديدة في مجال العلوم الاجتماعية ونحوها في عالم الثقافة والفكر، وكان في شيخوخته بل في هرمه ناشطاً نابهاً يرفد مجلة المعرفة بدمشق بمقالات رصينة حول المراهقة والابداع وقضايا التعلم والسلوك وهو في التسعين من عمره، مستعيناً بشاب يوفر له متطلبات النسخ والتواصل وهو في الغالب مستلق على فراشه حيناً أو مضطجع على مقعده الطويل حينا آخر وعلى هذه الحال كان يستقبل زائريه من طلابه السابقين ومن سائر محبيه وكنت واحداً منهم أتبرك بلقائه المحبب وأسعد بحديثه الشائق وذكرياته الطريفة:.وكان أن حباه الله ذاكرة حية وقدرة مناسبة على البصر والسمع ولم يخل ذلك من رعشة تتبدى في كفيه وقدميه.. وكان يعتذر عن حالته هذه أمامنا بقوله لم يبق في جسدي عضو سليم، ثم يشير بأصبعه إلى رأسه ويقول إلا هذا، وأحمد الله على نعمته وقد تعددت زيارات بعض الصحفيين له في غرفته وكتبوا عن لقاءاتهم به. لقد شارك فاخر العاقل في السنوات الأخيرة من عمره ببعض النشاطات الاجتماعية والخيرية والندوات الثقافية، تحدث خلالها بكلمات طيبة وموفقة كانت موضع استحسان وتقدير لدى سامعيه من الحاضرين. ومن جهة أخرى حظي فاخر العاقل بحفل تكريمي يليق به في المركز الثقافي بحلب في السابع من تموز سنة 2007. وبعد عامين من هذه المبادرة في صيف سنة 2009 تنادى الأوفياء والمحبون مرة أخرى إلى تكريم الأستاذ الجليل داخل دارهم وذلك في بهو المكتبة الرحيب ومراعاة لضعفه ومرضه بعد أن بلغ التسعين بل تخطاها وفي هذا الجو الرائق الحميم ألقيت كلمات مفعمة بالود والإجلال ومنها كلمة السيدة نجوى رئيسة مجلس إدارة دار السعادة، وكلمة المحامي شمس الدين فنصة، وكلمة الدكتور محمود عكام مفتي حلب وكلمة السيد أحمد عبد الكريم الذي قدم إلى حلب لتجديد اللقاء مع أستاذه الأثير، وكلهم من طلابه السابقين، ثم كانت الكلمة الأخيرة للمكرم العزيز فاخر العاقل الذي توج الكلمات على جمالها بكلمة استغرقت قرابة الساعة كان حديثه خلالها سائغاً وشائقاً على نحو أدهش الحاضرين، وكأنما استمد من هذا الجمع الحميم عناصر طاقة وحيوية غير معهودتين من مثل ماكان عليه حاله من التعب والمرض فالنور لابد أن ينبثق والنبع يأبى إلا أن يتدفق. وإذا كان من المعهود في هذه الحياة أن تتخلل الورود بعض الأشواك، وأن تشوب المياه بعض الأقذاء فإن حياة فاخر المفعمة بالمسيرة الحميدة والعمل الدائب لقيت بعض المنغصات التي طالما تأذت منها نفسه المرهفة، من هذا القبيل ماظل عالقاً في ذاكرته وأورده في كتابه (علماء نفس أثروا في التربية) ثم حدثنا به ذات يوم بمرارة، وذلك حين التقى فيما مضى من السنين برئيس وزراء سابق كان من قبل واحداً من تلاميذه أصبح بعد ذلك وزيراً ثم رئيس وزارة، فوجدها الأستاذ العاقل فرصة مناسبة فاقترح على هذا الوزير وهو معلم سابق أن يحدث وساماً للمعلمين المتميزين، تشجيعاً لهم وتقديراً فابتسم الرجل على الفور وقال: (يبدو أن أستاذناً يريد وساماً) وكان تعليق الأستاذ هو الصمت والإطراق وإلقاء تحية الانصراف.. ومن تلك الذكريات المرة التي تنغص على المرء عيشه أنه كما حدثنا أستاذنا أنه كان لديه مكتبة نفيسة منتقاة تضم أربعة آلاف وخمسمئة كتاب وكان يؤرقه مصيرها من بعده، فقرر إهداءها إلى كليته الأثيرة بدمشق كلية التربية ثم عرض هذه المكرمة على عميدة الكلية وقال لها إنه يرغب أن يكون تبرعه مقترناً بتخصيص غرفة أو قاعة لهذه الكتب وأن يفرز موظفاً ليكون قيماً على المكتبة المهداة، ولم يطل الأمر سوى لحظات لا للشكر وقبول الهبة بل للاعتذار عن عدم الموافقة على هذا العرض لعدم توفر الإمكانات.. وذلك بكلمات مقتضبة (لا هذا ولاذاك) وفي أثر ذلك انعطف أستاذ العاقل إلى مسار حميد آخر وتبرع بكتبه القيمة وحصاد عمره المديد لتودع في ركن حريز في مكتبة الأسد ومنذ ذلك اليوم انسحب من سلك التدريس وانصرف إلى حقل التأليف. وثمة منغص أخير كان مبعث ألم في عميق نفس الأستاذ العاقل وقلما كان يفصح عنه إنه كان يأمل أن يغدو في عداد أعضاء مجمع اللغة العربية بدمشق ولكن المجمع قد غفل عنه، على حين بادر إلى ضم آخرين إليه ولم يكن يقل عنهم شأناً في سلم المعرفة والعطاء أما أنا فلطالما حرصت على أن أتحاشى ذكر عضويتي في المجمع أمامه وأنا تلميذه فيما أرى أنه قد يسبب حرجاً لي وله وإلى الآن أتساءل ويتساءل العديدون معي أين المعايير ؟ أليس كتابه الجليل معجم العلوم النفسية وحده كافياً ليجعله مؤهلاً لدخول تلك المؤسسة الرفيعة من بابها الواسع؟ فضلاً عن مسيرة عمر من العطاء الثر المتميز في خدمة العلم والمعرفة ورفع شأن الوطن. ومهما يكن من أمر فإن قيمة المرء مايحسن كما قال الإمام علي الخليفة الراشدي فالخير ملحوظ والمقام محفوظ فمن أبرز ملامح النجابة والوفاء والتقدير والإجلال أن تبادر مئات من الأوفياء والمحبين أكثر من مرة إلى تكريم هذا الأستاذ الكبير وأن يهرع أيضاً عدد من الرسميين وذوي المناصب إلى زيارة أستاذهم في داره هذه للاستفسار عن حاله وإبلاغه أطيب التحيات وأخلص التمنيات من مثل مبادرة السيدين وزيري الثقافة الدكتورمحمود السيد ثم الدكتور رياض نعسان آغا والدكتورة بثينة شعبان وسوى هؤلاء المرموقين من الذين يؤمون حلب بين الحين والحين. على أن التكريم الأكبر والمبادرة الأسمى تتجلى لدى أعلى مستوى في الدولة حين منحه السيد رئيس الجمهورية حافظ الأسد وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة وكل مابوسعنا قوله بعد رحيل أستاذ الجيل والعلامة الجليل الأستاذ فاخر العاقل بارك الله هذه المدينة حلب المحروسة التي احتضنت في نهاية المطاف أبناءها الأوفياء وأحبتها المبدعين وضمتهم إلى شغاف قلبها.
|