ويرد الكثير من هذه الطقوس إلى عادات العرب في الجاهلية، وصدر الإسلام، بل يذهب أكثر من ذلك حين يرى أن بعضها قادم من طقوس الموت عند الشعوب السورية القديمة وشعوب ما بين النهرين، ويثبت البكائيات التي يجمعها من قرى المحافظة وبعض قرى جبل الشيخ.
المآتم في الجاهلية
لكي نفهم هذه العادات، عاد الدكتور ثائر زين الدين إلى أصولها في تاريخنا العربي ولو بشكل سريع في كتابه هذا، لأن أهل الجبل يعودون بأنسابهم إلى اللخميين والتنوخيين كما تؤكد الكثير من الدراسات والبحوث، عرض الكاتب بعض عادات عرب الجاهلية والإسلام مثل «النعي» التي اعتادوا أن يرسلوا ناعياً في القبائل يدور في مضاربها، رافعاً صوته بنعي فلان وهو يقول:« نعاء فلان بن فلان» أي هلك فلان بن فلان، ولاسيما إذا كان الميت سيداً في قومه، ويقال للنعي: الميت أو خبر الموت، أما الناعي فهو من يأتي بالخبر -كما قلنا- ليلاً أو نهاراً. تقول الخنساء في ذلك:
نعي ابن عمرو أتى موهنا
قتيلاً فمالي لا أجزع
طقوس التعزية حالياً
بين الكاتب أن بلدات الجبل كانت كلها تقريباً قد بنت مواقف خاصة للتعزية منذ زمن بعيد إضافة إلى «بيوت الجنازة» وموقف التعزية بهو أو فناء واسع جداً قد يكون مستطيلاً أو مربعاً أو سوى ذلك، تبنى فيه مدرجات على غرار المسارح الرومانية المنتشرة في المنطقة لتتسع لجموع الناس التي تجلس بعد أن تقدم العزاء، ويراعى في بناء هذا الموقف أن يحمي الناس من المطر والشمس أحياناً كثيرة، بحيث يسقف الجزء الذي يغطي المقاعد منه، ويتخذ أهل الفقيد وأقرباؤه وأنسباؤه ركناً واضحاً في الموقف منذ الصباح الباكر، -على الأغلب- وتتوافد إليهم جموع المعزين، الذين سمعوا صوت الناعي، ينعي المتوفى، أو بٌلغوا بالنعوة شفوياً أو ببطاقات مطبوعة، وتكون هذه الوفود متنوعة جداً فقد يضم الوفد عائلة محددة من عائلات الجبل أو أهل بلدة أو قرية ما دون مراعاة لوحدة النسب إلى عائلة، وقد يتكون الوفد من مجموعة أصدقاء أو زملاء عمل وما إلى ذلك، ثم يقف وفد المعزين نسقاً أمام أهل الفقيد، ويبدأ كبير الوفد سناً أو زعيم العائلة بقوله الجملة الأولى «عظم الله أجركم» فيجيب أهل الفقيد «أجركم عند الله عظيم» ثم ينطلق جميع أعضاء وفد المعزين بطرح عبارات التعزية المعروفة سلفاً والمتوافق عليها منذ عشرات السنين ويسمعون الإجابة المعروفة أيضاً، ومن النادر أن نطرح عبارات جديدة في هذا، ويلاحظ: «الطقس أقرب إلى الحالة المسرحية، من حيث القول والإجابة.
وتحدث د. ثائر زين الدين عن النواح مطولاً في كتابه حيث أوضح أن النواح نوع من الغناء الرقيق الحزين الشجي، تؤديه النسوة على الأغلب في المآتم، وتسمى الواحدة منهن نائحة أو نواحة، والنوائح كما جاء في لسان العرب -اسم يقع على النساء يجتمعن في مناحة، ويجمع على الأنواح، ونساء نَوْحٌ وأنواح ونوَّح ونوائح ونائحات، وناحت المرأة تنوح نوحاً ونواحاً ونياحاً ونياحة ومناحة، وناحَتْهُ وناحت عليه.
وتودي النسوة النواحَ في مآتم السويداء وهنَّ جالسات ومتحلقات حول الجنازة وتكون نساء المتوفى من أهله وذويه هن الأقرب إليه بحيث يجلسن عند رأسه ومن حوله ويرددن نواحهنَّ شعرآً عاميّاً، وتشاركهن النسوة جميعاً وقد ترتجل بعضهن شيئاً جديداً لم يقل من قبل، ولكن الأغلب أن يكررن ما قيل منذ عشرات السنوات وربما مئات في مآتم عديدة ولكن بصيغ جديدة، وأياً كان شكل النواح أو أسلوبه فإنما هو إشارة للبكاء وتنفيس الحزن الكامن سواء صدر من المفجوعات أو ممن يبواسيهن.
والسائد أن تشارك المرأة التي تدخل بيت الجنازة أو المكان المسجى فيه المتوفى لتعزي أهله بالنواح على الفقيد كنوع من المشاركة بحزن أهله ومواساتهم، ودفعهم للبكاء، لإخراج الحزن الكامن في أعماقهم لأن الشائع أن النساء القريبات من المتوفي ولاسيما الأم والزوجة والبنات قد يصبن بالجلطات الدموية أو الآفات القلبية وغيرها، إذا احتبست دموعهن ولم يتمكن من البكاء.
وأكد الكاتب في استعراضه لموضوع النواح أن الكثير من المتدينين يرفضون النواح على موتاهم، وبعضهم يتأسى لدرجة إنكار البكاء بل إن بعض رجال الدين منعوا الندب والنواح في كثير من بيوت الجنازة واكتفوا بسماع القرآن الكريم وتلاوة بعض سير الأولياء الصالحين، والحقيقة أن كل امرأة حين تنوح مواساةً لأهل الفقيد إنما تنوح على شخص فقدته هي وهذا يعيدنا إلى قصيدة متمم بن نويرة في رثاء أخيه مالك عندما كان يبكي كل قبر يراه لأجل قبر أخيه.
لقد لامني عند القبور على البكاء رفيقي لتذراف الدموع السوافكِ.
وأيضاً هناك تعدد للتناويح وتعدد لأشكالها، وصيغها وإيقاعاتها تبعاً للمتوفى ابن، أخ، زوج، زوجة، شيخ....