الجدران الثلاثة هي القول الذي استهل به مقدمته (ما انتهيت من منزل قط إلا وتمنيت إعادة بنائه ) قول أطلقه بناء ماهر كما يقول عبود وهو - البنّاء- يتأمل ما أبدعته يداه ويسمع عبارات الشكر والمديح وهو الشعور الذي انتاب صاحب الكتاب إذيقول وأنا أختتم هذه الصفحات التي تختصر جهداً أمضيت فيه شطراً غالياً من العمر محاولاً أن أجسد على الورق ما خططت له لنشر ما يجب قوله أو توهمت ضرورة أن يقال.
أما الجدار الثاني فهو ما كتبته الأديبة والروائية السورية غادة السمان عما نشره عبود في صحيفة الثورة تحت عنوان أعمدة من ورق إذ تقول غادة السمان: ثمة كتابات تشبه رياحاً ضوئية عطرية تهب من القلب المتألم ويتلقاها قلب في كواكب أخرى لأنها تخاطب تجربته وأحزانه التي توهم أنه أتقن إغلاق توابيت العمر عليها ونفاها إلى مقابر القمر ... والمقالة في أعمدة من ورق بعنوان «ورقة ثانية محذوفة» لم أنجح في حذفها من ذاكرتي وفيها يقول الاستاذ أسعد عبود «لا أنكر أنني تلقيت سهاماً أدمت القلب والروح وتعرضت لتهم لا دخان ولا نار وأكثر ما يمكن أن يشهد لي بصدق ذلك ، هم مطلقو السهام أنفسهم هم يعرفون أنه لم يكن من دخان أو نار وأزعم أنني نجحت في ألا أدخل معهم معارك هم يريدونهاوأنا أرفضها.
تضيف غادة السمان قائلة : في هذه السطور لأسعد عبود وجدت سطوراً كنت اتمنى أن أكتبها كما آلاف القراء ففيها صدى لقلوب تحب الحوار وترفض معارك مفتعلة يحاول جرك إليها من عاداك على حسد.
أنت ترتاح للكاتب الذي ينقل صوت قلبك كأنه النوطة الموسيقية لجراحك السرية يصير قريباً من عتمتك وضوئك وبهذا المعنى قرأت قول أسعد عبود «أعمدة من ورق» مشروع أعيش معه حتى ساعات الليل المتأخرة وخوفي من الزمن وليس من أي شيء آخر خوفي أن أقضي بما عشته وخبرته قبل أن أتمكن من نقله.
خوف يعيشه كل صادق وأندر الصدق والإبداع وما أكثر المطبوع في يومنا وبعضه سخيف ومسؤول عن اغتيال الاشجاردونما وجه حق.
ترى متى تقيم الأشجار الدعوى ضدالذين يتسببون في قطعها وتحويلهاإلى ورق حيث يدونون عليها جوعهم للشهرة وتفاهاتهم الأبجدية ؟!
أما التعويذة الثالثة التي هي الأساس والركن فهي موضوع الكتاب وعنوانه «أعمدة من ورق - سورية والثورة 1960-1970 كتاب يروي»
هذا الكتاب ليس رصيف عبور بل هو طريق عمل دؤوب وصفحات بنيت حرفاً حرفاً وكلمة كلمة حتى صارت كتاباً ، كتاب عن صحيفة ومنها وإليها ، وبقلم أحد أعمدتها عاشها حرفاً وموقفاً وعطاءً كتب وبنى وأسهم فتربع على عرش الكلمة رئيس تحرير ، لم يأت من فراغ ولم يذهب إلى فراغ ، حمله قلمه وسنون عمله فكان الصحفي ومدير التحرير ورئيس التحرير وأولاً وأخيراً القلم الذي كتب بنبض الحياة .
وفي سفره هذا الذي يتجاوزالسبعمئة صفحة يقدم باقة من عشرة عقود عاشتها جريدة الثورة وهي المستمرة ،وفي كل صفحة قدمها تقف أمام السياسي والثقافي والاجتماعي والتنموي ،كيف لا وصحيفة الثورة هي صحيفة التنمية والتنمية ليست جانباً واحداً أبداً بل جوانب متكاملة وإذا كنا نريد أن نقدم مختارات من كتاب يروي فإننا نقدم الكتاب كله لأن الرواية لا تجزأ ، ولا تختزل بفصل وطريقك اثناءقراءتهاللوصول إلى خواتيمها يحمل في طياته جمال المتعة والمغامرة وعلى هذا الأساس ندع للقارئ أن يستكشف بساتين الطريق ويرى وعورتها ومنعطفاتها ليصل إلى ظلال وارفة جديدة لكن البدايات دائماً هي المدماك ومن لا يبدأ بخطوات منطقية فإنه سينتهي إلى التلاشي.
من هنا نقف عند عنوان أولي في هذا السفر الأدبي الجميل تحت عنوان شمعه في بداية النفق يكتب عبود قائلاًومستحضراًأحوال مدينته الصغيرة :
مدينتنا الصغيرة مليئة بالضجر والهواجس ... شاطئ البحر يمنحك فرصة شرود لن تطول ... بل سرعان ما تعتادها فتدخل معك في الضجر ... مدرسة وكتب ودار واحدة للسينما تعرض من قديم الأفلام والفرجة بنصف ليرة وعوضاً عن الفيلم يعرض اثنان وهكذا تدخلها في السادسة مساءً بعد حفلة خاصة للسيدات تبدأ في الثالثة «ماتنيه» وللمرأة نصف ما للرجل فيلم واحد لا فيلمان ولأن فيها آلة عرض واحدة تنتهي حفلتنا في الواحدة ليلاً.
صغار نحن بأجنحة قصيرة ... الطموح كبير والطيران إلى المجهول تركنا قرانا ولم نتركها ، بل هو البحث عن العلم ومعه شيء من ثقافة وآخر من سياسة وكثير من مقاومة.
مقاومة الفقر ... البرد ... الخصوم السياسيون ولنا في ذلك سبل وطرق لم يكن في مدينتنا ما لا يشجع على السياسة لم يكن في مدرستنا من هو غير مسيس ... ثمة سذاجة حتى في الانتماء إلى أحزاب سياسية بل ثمة ارتباك.
الزمن السياسي هو فترة ما يعرف بالانفصال 28 أيلول 1961- 8 آذار 1963 «عائدون من حقبة الناصرية في عهد الوحدة »22 شباط 1958-28 أيلول 1961»حيث اللاحزبية شعار إلى إحياء الأحزاب التي عرفتها سورية .
هي بصراحة لم تمت ... كما أن الناصرية لم تتوار... لم نكن أبطالاً في الصراع كما تخيلنا بل كنا أدواته.
أشعر أنني أتذكر تلك الأيام ليس لأنها حفرت في دماغي الطازج 14 سنة بل بسبب ما حفرته الأيام بعدها.
متحفز للحياة مستعد لكل شيء عدا الدراسة «بالعقل» وهكذا حاورت أحزاباً وتيارات وعشقت كثيراً من بنات التجهيز الجميلات وليس لأي منهن علم بذلك ...
في الأيام التالية أحسست أن كل شيء كان جميلاً رغم الفقر من حيث هو حاجة للمال ... دخلت في تجارب تبدو اليوم جميلة خطط وحيل مرسومة بدقة منفذة بمهارة من أجل سندويشة فلافل أو شعيبية» أو صحن من الكنافة بنصف ليرة فغالباً يحتاج أكثر مما نملك وما نخطط له .
الرواية التي اختار عبود أن يقف عند عناوينها العريضة وكان صانعاًللكثير من وقائعها تجاوزت اليوم خمسين عاماً من عمرها وقد احتفت بهذا الربيع الزاهي منذ شهور وهي أكثر شباباً وديمومة وعطاءً فأعمدة الورق هي أعمدة النور وحبرها نسغ حياة وحين تقول جريدة الثورة لابد أن تنسكب أمامك دفعة واحدة أسماء مبدعين متميزين يبدون أشجاراً سامقة وفي فيئهم الكثير ممن عملوا ومازالوا وسيبقون رفاق حرف .
ليست أعمدة من ورق ولا كتاباً يروي بل هي صفحات مكتوبة بقلم خبر الحياة وعاشها والرواية تكتمل حين تمسك صفحات الكتاب وتبدأ ولن تتركها حتى تنتهي رواية أحد أعمدة الصحافة السورية .
الكتاب : أعمدة من ورق ... كتاب يروي - المؤلف : أسعد عبود - الناشر الهيئة العامة السورية للكتاب